الْجَلِيَّ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمْثَالِهِ كَمَا فِي الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَمِنَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَظُنُّ أَنَّ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ أَفْتَى بِوَفْقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ لَمَا خَالَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الِاصْطِلَامِ: التَّعَرُّضُ إِلَى جَانِبِ الصَّحَابَةِ عَلَامَةٌ عَلَى خِذْلَانِ فَاعِلِهِ، بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَقَدِ اخْتُصَّ أَبُو هُرَيْرَةَ بِمَزِيدِ الْحِفْظِ لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَهُ - يَعْنِي: الْمُتَقَدِّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَفِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ أَيْضًا - وَفِيهِ قَوْلُهُ: إِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا الْحَدِيثَ. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَرِدْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْأَصْلِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُسَمَّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَاعْتَلَّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ بِأَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ لِذِكْرِ التَّمْرِ فِيهِ تَارَةً وَالْقَمْحِ أُخْرَى وَاللَّبَنِ أُخْرَى، وَاعْتِبَارِهِ بِالصَّاعِ تَارَةً، وَبِالْمِثْلِ أَوِ الْمِثْلَيْنِ تَارَةً وَبِالْإِنَاءِ أُخْرَى.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالضَّعِيفُ لَا يُعَلُّ بِهِ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُعَارِضٌ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ لَا الْعُقُوبَاتِ، وَالْمُتْلَفَاتُ تُضْمَنُ بِالْمِثْلِ وَبِغَيْرِ الْمِثْلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى النَّسْخِ مَعَ مُدَّعِيهِ لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي النَّاسِخِ فَقِيلَ: حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ لَبَنَ الْمُصَرَّاةِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا أُلْزِمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ نَسِيئَةً صَارَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَهَذَا جَوَابُ الطَّحَاوِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالتَّمْرُ إِنَّمَا شُرِعَ فِي مُقَابِلِ الْحَلْبِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّبَنُ مَوْجُودًا أَوْ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي كَوْنِهِ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَقِيلَ: نَاسِخُهُ حَدِيثُ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ اللَّبَنَ فَضْلَةٌ مِنْ فَضَلَاتِ الشَّاةِ، وَلَوْ هَلَكَتْ لَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ فَضَلَاتُهَا تَكُونُ لَهُ فَكَيْفَ يَغْرَمُ بَدَلَهَا لِلْبَائِعِ؟ حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ أَصَحُّ مِنْهُ بِاتِّفَاقٍ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ الْمَرْجُوحُ عَلَى الرَّاجِحِ؟ وَدَعْوَى كَوْنِهِ بَعْدَهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَعَلَى التِّنْزَالِ فَالْمُشْتَرِي لَمْ يُؤْمَرْ بِغَرَامَةِ مَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ بَلْ بِغَرَامَةِ اللَّبَنِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ فَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى هَذَا تَعَارُضٌ.
وَقِيلَ: نَاسِخُهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي رَفْعِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ: فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فِي الَّذِي يَسْرِقُ مِنَ الْجَرِينِ يَغْرَمُ مِثْلَيْهِ وَكِلَاهُمَا فِي السُّنَنِ، وَهَذَا جَوَابُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، فَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَهِيَ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ التَّصْرِيَةَ إِنَّمَا وُجِدَتْ مِنَ الْبَائِعِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ لَلَزِمَهُ التَّغْرِيمُ، وَالْفَرْضُ أَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ يَقْتَضِي تَغْرِيمَ الْمُشْتَرِي فَافْتَرَقَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَاسِخُهُ حَدِيثُ: وَالْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَهَذَا جَوَابُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقْطَعُ الْخِيَارَ فَثَبَتَ أَنْ لَا خِيَارَ بَعْدَهَا إِلَّا لِمَنِ اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الْخِيَارَ الَّذِي فِي الْمُصَرَّاةِ مِنْ خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا تَقْطَعُهُ الْفُرْقَةُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute