فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا. وَاسْتَأْجَرَ آخرين بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلَوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمَ هَذَا، وَلَكُم الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنْ الْأَجْرِ فَعَمِلُوا، حَتَّى إِذَا كَانَ حِينُ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالَوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ لَهُمَ: أَكْمِلَوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمَ؛ فإن مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَأَبوا، فاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى أَوَّلِ دُخُولِ اللَّيْلِ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ مَضَى سَنَدُهُ وَمَتْنُهُ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَشَيْخُهُ أَبُو كُرَيْبٍ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ، وَبُرَيْدٌ بِالمُوَحَّدَةِ وَالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ.
قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا) هُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ وَالتَّقْدِيرُ: كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَأْجَرَهُمْ رَجُلٌ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ بِالْمُرَكَّبِ.
قَوْلُهُ: (يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ) هَذَا مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوَاقِيتِ، وَأَنَّهُمَا حَدِيثَانِ سِيقَا فِي قِصَّتَيْنِ، نَعَمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَوَاقِيتِ الْآتِيَةِ فِي التَّوْحِيدِ مَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَبِي مُوسَى، فَرَجَّحَهَا الْخَطَّابِيُّ عَلَى رِوَايَةِ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّتَانِ جَمِيعًا كَانَتَا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَحَدَّثَ بِهِمَا فِي وَقْتَيْنِ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ التِّينِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا غَضِبُوا أَوَّلًا، فَقَالُوا مَا قَالُوا، إِشَارَةً إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطَوْا قَدْرًا زَائِدًا تَرَكُوا فَقَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ.
انْتَهَى، وَفِيهِ مَعَ بُعْدِهِ مُخَالَفَةٌ لِصَرِيحِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَوَاقِيتِ وَفِي التَّوْحِيدِ، فَفِيهَا: قَالُوا: رَبَّنَا أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا، فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ أُعْطُوا ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ أَعْطَيْتَنَا أَيْ أَمَرْتَ لَنَا أَوْ وَعَدْتَنَا، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بِكَوْنِهِمَا قِصَّتَيْنِ أَوْضَحُ، وَظَاهِرُ الْمَثَلِ الَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْيَهُودِ: آمِنُوا بِي وَبِرُسُلِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَآمَنُوا بِمُوسَى إِلَى أَنْ بُعِثَ عِيسَى فَكَفَرُوا بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَدْرِ نِصْفِ الْمُدَّةِ الَّتِي مِنْ مَبْعَثِ مُوسَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَقَوْلُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا من إِطْلَاقُ الْقَوْلِ وإِرَادَةِ لَازِمِهِ؛ لِأَنَّ لَازِمَهُ تَرْكُ الْعَمَلِ الْمُعَبَّرِ بِهِ عَنْ تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُمْ: وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ إِشَارَةٌ إِلَى إِحْبَاطِ عَمَلِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِعِيسَى، إِذْ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بِمُوسَى وَحْدَهُ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي النَّصَارَى إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُدَّتَهُمْ كَانَتْ قَدْرَ نِصْفِ الْمُدَّةِ فَاقْتَصَرُوا عَلَى نَحْوِ الرُّبُعِ مِنْ جَمِيعِ النَّهَارِ، وَقَوْلُهُ: وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ.
زَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: الَّذِي شَرَطْتُ لِهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَجْرِ يَعْنِي الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِمَا مَضَى مِنْهُ وَالْمُرَادُ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ: بِإِيمَانِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ الْإِشَارَةَ إِلَى قَصْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ مِنَ الدُّنْيَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ) هُوَ بِنَصْبِ حِينَ وَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ.
قَوْلُهُ: (وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ وَخَطَّأَهُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلْ لَهُ وَجْهٌ.
قَوْلُهُ: (فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ) أَيِ: الْمُسْلِمِينَ (وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute