للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بِمَا حَدَّثَ بِهِ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَنَكَّسُوا رُءُوسَهُمْ، وَلِأَحْمَدَ: فَلَمَّا حَدَّثَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ طَأْطَؤوا رُءُوسَهُمْ.

قَوْلُهُ: (عَنْهَا)؛ أَيْ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ، أَوْ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ.

قَوْلُهُ: (لَأَرْمِيَنَّهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: لَأُلْقِيَنَّهَا؛ أَيْ لَأُشِيعَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِيكُمْ، وَلَأُقَرِّعَنَّكُمْ بِهَا كَمَا يُضْرَبُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ لِيَسْتَيْقِظَ مِنْ غَفْلَتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِّينَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِالنُّونِ. وَالْأَكْنَافُ بِالنُّونِ جَمْعُ كَنَفٍ بِفَتْحِهَا وَهُوَ الْجَانِبُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ تَقْبَلُوا هَذَا الْحُكْمَ وَتَعْمَلُوا بِهِ رَاضِينَ لَأَجْعَلَنَّهَا - أَيِ الْخَشَبَةَ - عَلَى رِقَابِكُمْ كَارِهِينَ. قَالَ: وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ جَزَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ كَانَ يَلِي إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ وَإِنْ كَرِهْتُمْ، وَهَذَا يُرَجِّحُ التَّأْوِيلَ الْمُتَقَدِّمَ. وَاسْتَدَلَّ الْمُهَلَّبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ بِأَنَّ الْعَمَلَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا جَهِلَ الصَّحَابَةُ تَأْوِيلَهُ وَلَا أَعْرَضُوا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ حَدَّثَهُمْ بِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِهِ لَمَا جَازَ عَلَيْهِمْ جَهْلُ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْبَابِ، انْتَهَى.

وَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ الْمُعْرِضِينَ كَانُوا أصَحَابَه وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدًا لَا يَجْهَلُ مِثْلُهُمُ الْحُكْمَ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ كَانُوا غَيْرَ فُقَهَاءَ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانُوا صَحَابَةً أَوْ فُقَهَاءَ مَا وَاجَهَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ قَوَّى الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ بِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، فَكَانَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. وَدَعْوَى الِاتِّفَاقِ هُنَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الْمُهَلَّبِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ عَصْرِ عُمَرَ كَانُوا صَحَابَةً، وَغَالِبَ أَحْكَامِهِ مُنْتَشِرَةٌ لِطُولِ وِلَايَتِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا كَانَ يَلِي إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ نِيَابَةً عَنْ مَرْوَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَرَوَاهُ هُوَ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَنْ يَسُوقَ خَلِيجًا لَهُ فَيَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فامتنع، فَكَلَّمَهُ عُمَرُ فِي ذَلِكَ فَأَبَى، فَقَالَ: وَاللَّهُ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ. فَحَمَلَ عُمَرُ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعَدَّاهُ إِلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْجَارُّ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ دَارِ جَارِهِ وَأَرْضِهِ.

وَفِي دَعْوَى الْعَمَلِ عَلَى خِلَافِهِ نَظَرٌ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا إِنْ غَرَزَ أَحَدٌ فِي جِدَارِهِ خَشَبًا، فَأَقْبَلَ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَرِجَالٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ. . . الْحَدِيثَ، فَقَالَ الْآخَرُ: يَا أَخِي، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مَقْضِيٌّ لَكَ عَلَيَّ وَقَدْ حَلَفْتُ، فَاجْعَلْ أُسْطُوَانًا دُونَ جِدَارِي فَاجْعَلْ عَلَيْهِ خَشَبَكَ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَمَنَعَهُ، فَإِذَا مَنْ شِئْتُ مِنَ الْأَنْصَارِ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، فَجُبِرَ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْوُجُوبَ بِمَا إِذَا تَقَدَّمَ اسْتِئْذَانُ الْجَارِ فِي ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى ذِكْرِ الْإِذْنِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَعُقَيْلٍ أَيْضًا وَأَحْمَدَ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ: مَنْ سَأَلَهُ جَارُهُ، وَكَذَا لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الضَّمِيرَ فِي جِدَارِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجِذْعِ؛ أَيْ لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَضَعَ جِذْعَهُ عَلَى جِدَارِ نَفْسِهِ وَلَوْ تَضَرَّرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْعِ الضَّوْءِ مَثَلًا وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ، وَقَدْ رَدَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لِهَذَا