للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

النِّحَلِ، كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ. وَفِي رِوَايَةِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِنَّ لِبَنِيكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، فَلَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ، أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا إِذًا. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ وَلَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَوِّ بَيْنَهُمْ.

وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ السَّوِيَّةَ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ.

وَعَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ، وَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ. وَعَنْهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ، كَأَنْ يَحْتَاجَ الْوَلَدُ لِزَمَانَتِهِ وَدَيْنِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُونَ الْبَاقِينَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ التَّسْوِيَةُ إِنْ قَصَدَ بِالتَّفْضِيلِ الْإِضْرَارَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ فَضَّلَ بَعْضًا صَحَّ وَكُرِهَ. وَاسْتُحِبَّتِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّسْوِيَةِ أَوِ الرُّجُوعُ، فَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَالنَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ. وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ أَوْجَبَهُ أَنَّهُ مُقَدَّمَةُ الْوَاجِبِ لِأَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقَ مُحَرَّمَانِ فَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِمَا يَكُونُ مُحَرَّمًا، وَالتَّفْضِيلُ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِمَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّسْوِيَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعَدْلُ أَنْ يُعْطِيَ الذَّكَرَ حَظَّيْنِ كَالْمِيرَاثِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ حَظُّهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ لَوْ أَبْقَاهُ الْوَاهِبُ فِي يَدِهِ حَتَّى مَاتَ.

وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّسْوِيَةِ يَشْهَدُ لَهم. وَاسْتَأْنَسُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَأَجَابَ مَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ عَلَى النَّدْبِ عَنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَوْهُوبَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ جَمِيعَ مَالِ وَالِدِهِ وَلِذَلِكَ مَنَعَهُ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْعِ التَّفْضِيلِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَالِكٍ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ صَرَّحَ بِالْبَعْضِيَّةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِبَعْضِ وَلَدِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ كَانَ غُلَامًا وَأَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ لَمَّا سَأَلَتْهُ الْأُمُّ الْهِبَةَ مِنْ بَعْضِ مَالِهِ، قَالَ: وَهَذَا يُعْلَمُ مِنْهُ عَلَى الْقَطْعِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ.

ثَانِيهَا: أَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تتُنْجَزْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بَشِيرٌ يَسْتَشِيرُ النَّبِيَّ ﷺ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا تَفْعَلَ، فَتَرَكَ. حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ. وَفِي أَكْثَرِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ مَا يُنَابِذُهُ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ النُّعْمَانَ كَانَ كَبِيرًا وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْمَوْهُوبَ فَجَازَ لِأَبِيهِ الرُّجُوعُ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَيْضًا خُصُوصًا قَوْلُهُ: ارْجِعْهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ وُقُوعِ الْقَبْضِ، وَالَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا وَكَانَ أَبُوهُ قَابِضًا لَهُ لِصِغَرِهِ، فَأَمَرَ بِرَدِّ الْعَطِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَمَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ.

رَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: ارْجِعْهُ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ لِأَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنِ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ رُجِّحَ عَلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِهِ، وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ارْجِعْهُ أَيْ لَا تُمْضِ الْهِبَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ صِحَّةِ الْهِبَةِ.

خَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي إِذْنٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ الْإِمَامَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَشْهَدُ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ وَإِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْكُمَ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا، وَارْتَضَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَلَا مِنْ أَدَائِهَا إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحْتَجُّ بِهَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَهِدَ عِنْدَ