مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ فَطِنًا مُدْرِكًا لِلْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ بِالْقَرَائِنِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِهَذَا، وَكَأَنَّهُ تَوَسَّطَ بَيْنَ مَذْهَبَيِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ)؟ وَصَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلًا إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ عَنْهُ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ كَوْنُهُ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى شَخْصَهُ وَإِنَّمَا سَمِعَ صَوْتَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ يُشِيرُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى التَّعْرِيفِ، أَيْ إِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا فُلَانٌ، فَإِذَا عَرَفَ شَهِدَ قَالَ: وَشَهَادَةُ التَّعْرِيفِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ ; لِأَنَّهَا تُوَارِيهَا الْجِبَالُ وَالسَّحَابُ، وَيَكْتَفِي بِغَلَبَةِ الظُّلْمَةِ عَلَى الْأُفْقِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي فَقَالَتْ: سُلَيْمَانُ ادْخُلْ إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْعِتْقِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَرَى تَرْكَ الِاحْتِجَابِ مِنَ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مِلْكِهَا أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ مُكَاتَبَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مُكَاتَبًا لِعَائِشَةَ فَمُعَارَضَةٌ الصحيح مِنَ الْأَخْبَارِ بِمَحْضِ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى عَائِشَةَ بِمَعْنَى مِنْ عَائِشَةَ أَيِ اسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةَ فِي الدُّخُولِ عَلَى مَيْمُونَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ متنقبة) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالتَّشْدِيدِ، وَلِغَيْرِهِ بِسُكُونِ النُّونِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الْمُثَنَّاةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:
أَحَدُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَدِيثَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ اعْتِمَادُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى صَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَى شَخْصَهُ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَصَلَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: تَهَجَّدَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيْتِي، وَتَهَجَّدَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، هَذَا عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا.
قَوْلُهُ: (فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ) وَقَوْلُهُ: (أَصَوْتُ عَبَّادٍ؟) هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى الْمَذْكُورِ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا سُقْتُهُ، وَبِهَذَا يَزُولُ اللَّبْسُ عَمَّنْ يَظُنُّ اتِّحَادَ الْمَسْمُوعِ صَوْتُهُ وَالرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ، وَهُمَا اثْنَانِ مُخْتَلِفَا النِّسْبَةِ وَالصِّفَةِ، فَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَعَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ تَابِعِيٌّ مِنْ وَسَطِ التَّابِعِينَ، وَظَاهِرُ الْحَالِ أَنَّ الْمُبْهَمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ هُوَ الْمُفَسَّرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: زَادَ أَنْ يَكُونَ الْمَزِيدُ فِيهِ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ حَدِيثًا وَاحِدًا فَتَتَّحِدَ الْقِصَّةُ، لَكِنْ جَزَمَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ بِأَنَّ الْمُبْهَمَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ، فَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَمِعَ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ فَقَالَ: صَوْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي آيَةً يَرْحَمُهُ اللَّهُ كُنْتُ أُنْسِيتُهَا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُشَابَهَةُ قِصَّةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِقِصَّةِ عُرْوَةَ عَنْهَا، بِخِلَافِ قِصَّةِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهَا، فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِنِسْيَانِ الْآيَةِ، وَيَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي اتَّحَدَتْ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: سَمِعَ صَوْتَ رَجُلَيْنِ فَعَرَفَ أَحَدَهُمَا فَقَالَ: هَذَا صَوْتُ عَبَّادٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْآخَرَ فَسَأَلَ عَنْهُ، وَالَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ هُوَ الَّذِي تَذَكَّرَ بِقِرَاءَتِهِ الْآيَةَ الَّتِي نَسِيَهَا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى شَرْحِهِ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَأْذِينِ بِلَالٍ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقَدْ مَضَى بِتَمَامِهِ وَشَرْحِهِ فِي الْأَذَانِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى صَوْتِ الْأَعْمَى.
ثَالِثُهَا: حَدِيثُ الْمِسْوَرِ فِي إِعْطَاءِ