ذَلِكَ وَقَعَ فِي رُجُوعِهِمْ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَتْ طَرِيقُ تَبُوكَ مُلَاقِيَةً لِطَرِيقِ مَكَّةَ بِخِلَافِ طَرِيقِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِهِ أَنَّهُ ﷺ سَأَلَهُ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ اعْتِذَارُهُ بِتَزَوُّجِهِ الثَّيِّبَ بِأَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَتَرَكَ أَخَوَاتِهِ فَتَزَوَّجَ ثَيِّبًا لِتُمَشِّطُهُم وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَأَشْعَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَيَكُونُ وُقُوعُ الْقِصَّةِ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ أَظْهَرَ مِنْ وُقُوعِهَا فِي تَبُوكَ، لِأَنَّ ذَاتَ الرِّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَتَبُوكُ كَانَتْ بَعْدَهَا بِسَبْعِ سِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَا جَرَمَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا) وَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي دِينَارًا دِينَارًا حَتَّى بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ فَأَبْهَمَ الثَّمَنَ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ بِأُوقِيَّةٍ أَكْثَرُ) أَيْ مُوَافَقَةً لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْحَاصِلُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أُوقِيَّةٌ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَهِيَ لَا تُخَالِفُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَأُوقِيَّةُ ذَهَبٍ وَأَرْبَعُ أَوَاقٍ وَخَمْسُ أَوَاقٍ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ وَعِشْرُونَ دِينَارًا هَذَا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ; وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَقَدْ جَمَعَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ: سَبَبُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ رَوَوْا بِالْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ أُوقِيَّةُ الذَّهَبِ، وَالْأَرْبَعُ أَوَاقٍ وَالْخَمْسُ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْأُوقِيَّةِ الذَّهَبِ، وَالْأَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ مَعَ الْعِشْرِينَ دِينَارًا مَحْمُولَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَزْنِ وَالْعَدَدِ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مَعَ الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، قَالَ: وَكَأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْفِضَّةِ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَبِالذَّهَبِ عَمَّا حَصَلَ بِهِ الْوَفَاءُ أَوْ بِالْعَكْسِ اهـ مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ فيه أُوقِيَّةُ ذَهَبٍ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ مَنْ أَطْلَقَ، وَمَنْ قَالَ: خَمْسُ أَوَاقٍ أَوْ أَرْبَعٌ أَرَادَ مِنْ فِضَّةٍ وَقِيمَتُهَا يَوْمَئِذٍ أُوقِيَّةُ ذَهَبٍ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ مَا وَقَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأُوقِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّعَسُّفِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي ثَمَنِ الْجَمَلِ اخْتِلَافًا لَا يَقْبَلُ التَّلْفِيقَ، وَتَكَلُّفُ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ وَلَا اسْتَقَامَ ضَبْطُهُ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا تَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ بَاعَهُ الْبَعِيرَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ بَيْنَهُمَا وَزَادَهُ عِنْدَ الْوَفَاءِ زِيَادَةً مَعْلُومَةً، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْعِلْمِ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ بِضَارٍّ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سَبَقَ الْحَدِيثُ لِأَجْلِهِ بَيَانُ كَرَمِهِ ﷺ وَتَوَاضُعِهِ وَحُنُوِّهِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَبَرَكَةِ دُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَهَمِ بَعْضِهِمْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ تَوْهِينُهُ لِأَصْلِ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ التَّرْجِيحِ أَقْعَدُ، وَبِالرُّجُوعِ إِلَى التَّحْقِيقِ أَسْعَدُ، فَلْيُعْتَمَدْ ذَلِكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُسَاوَمَةِ لِمَنْ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ لِلْبَيْعِ، وَالْمُمَاكَسَةُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ، وَابْتِدَاءُ الْمُشْتَرِي بِذِكْرِ الثَّمَنِ، وَأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَأَنَّ إِجَابَةَ الْكَبِيرِ بِقَوْلِ: لَا جَائِزٌ فِي الْأَمْرِ الْجَائِزِ، وَالتَّحَدُّثُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْإِتْيَانِ بِالْقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا لَا عَلَى وَجْهِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِرَادَةِ الْفَخْرِ.
وَفِيهِ تَفَقُّدُ الْإِمَامِ وَالْكَبِيرِ لِأَصْحَابِهِ وَسُؤَالُهُ عَمَّا يَنْزِلُ بِهِمْ، وَإِعَانَتُهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ حَالٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دُعَاءٍ، وَتَوَاضُعُهُ ﷺ.
وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا مِنْ فَرْطِ تَعَبٍ وَإِعْيَاءٍ.
وَفِيهِ تَوْقِيرُ التَّابِعِ لِرَئِيسِهِ.
وَفِيهِ الْوَكَالَةُ فِي وَفَاءِ الدُّيُونِ، وَالْوَزْنُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ.
وَفِيهِ رَدُّ الْعَطِيَّةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِقَوْلِ جَابِرٍ: هُوَ لَكَ، قَالَ: لَا بَلْ بِعْنِيهِ، وَفِيهِ جَوَازُ إِدْخَالِ الدَّوَابِّ وَالْأَمْتِعَةِ إِلَى رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَحَوَالَيْهِ، وَاسْتُدِلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَلَا حُجَّةَ