للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لَا يَلْزَمُ، وَخَالَفَهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ إِلَّا زُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ، فَحَكَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ قَالَ: كَانَ أَبُو يُوسُفَ يُجِيزُ بَيْعَ الْوَقْفِ، فَبَلَغَهُ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا فَقَالَ: مَنْ سَمِعَ هَذَا مِنِ ابْنِ عَوْنٍ؟ فَحَدَّثَهُ بِهِ ابْنُ عُلَيَّةَ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ، وَلَوْ بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ لَقَالَ بِهِ، فَرَجَعَ عَنْ بَيْعِ الْوَقْفِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ اهـ. وَمَعَ حِكَايَةِ الطَّحَاوِيِّ هَذَا فَقَدِ انْتَصَرَ كَعَادَتِهِ فَقَالَ: قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ عُمَرَ حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْبِيدَ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مُدَّةَ اخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ اهـ. وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَفْتُ وَحَبَسْتُ إِلَّا التَّأْبِيدُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا حَبِيسٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رَدُّ الْوَقْفِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَأَحْسَنُ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَمَّنْ رَدَّهُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِهِ.

وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مِنْ خَصَائِصِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ وَقْفَ الْأَرَاضِي وَالْعَقَارِ، قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْوَقْفِ شَرْعًا وُرُودُ صِيغَةٍ تَقْطَعُ تَصَرُّفَ الْوَاقِفِ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَتُثْبِتُ صَرْفَ مَنْفَعَتِهِ فِي جِهَةِ خَيْرٍ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ ذِكْرِ الْوَلَدِ أَبَاهُ بِاسْمِهِ الْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ كُنْيَةٍ وَلَا لَقَبٍ.

وَفِيهِ جَوَازُ إِسْنَادِ الْوَصِيَّةِ، وَالنَّظَرِ عَلَى الْوَقْفِ لِلْمَرْأَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَقْرَانِهَا مِنَ الرِّجَالِ.

وَفِيهِ إِسْنَادُ النَّظَرِ إِلَى مَنْ لَمْ يُسَمَّ إِذَا وُصِفَ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ تُمَيِّزُهُ، وَأَنَّ الْوَاقِفَ يَلِي النَّظَرَ عَلَى وَقْفِهِ إِذَا لَمْ يُسْنِدْهُ لِغَيْرِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَزَلِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ يَلُونَ أَوْقَافَهُمْ، نَقَلَ ذَلِكَ الْأُلُوفُ عَنِ الْأُلُوفِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.

وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، وَأَنَّ الْمُشِيرَ يُشِيرُ بِأَحْسَنَ مَا يَظْهَرُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.

وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ لِرَغْبَتِهِ فِي امْتِثَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾

وَفِيهِ فَضْلُ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَصِحَّةُ شُرُوطِ الْوَاقِفِ وَاتِّبَاعُهُ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَصْرِفِ لَفْظًا.

وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَكرنُ إِلَّا فِيمَا لَهُ أَصْلٌ يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا لَا يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالطَّعَامِ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْوَقْفِ لَفْظُ الصَّدَقَةِ سَوَاءٌ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا أَوْ جَعَلْتُهُ صَدَقَةً حَتَّى يُضِيفَ إِلَيْهَا شَيْئًا آخَرَ لِتَرَدُّدِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ أَوْ وَقَفَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا أَضَافَ إِلَيْهَا مَا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ صَحَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ أَوْ حَبَسْتُ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيلَ: الصَّرِيحُ الْوَقْفُ خَاصَّةً.

وَفِيهِ نَظَرٌ لِثُبُوتِ التَّحْبِيسِ فِي قِصَّةِ عُمَرَ هَذِهِ.

نَعَمْ، لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا عَلَى كَذَا، وَذَكَرَ جِهَةً عَامَّةً، صَحَّ، وَتَمَسَّكَ مَنْ أَجَازَ الِاكْتِفَاءَ بِقَوْلِهِ: تَصَدَّقْتُ بِكذَا بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهَا: لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ رَاجِعًا إِلَى الثَّمَرَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَتَصَدَّقَ بِثَمَرَتِهَا، فَلَيْسَ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ أَثْبَتَ الْوَقْفَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ مُجَرَّدًا، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى وَالضَّيْفَ لَمْ يُقَيَّدْ بِالْحَاجَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَفِيهِ أَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ شَرَطَ لِمَنْ وَلِيَ وَقْفَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ إِنْ كَانَ هُوَ النَّاظِرَ أَوْ غَيْرُهُ، فَدَلَّ عَنْ صِحَّةِ الشَّرْطِ، وَإِذَا جَازَ فِي الْمُبْهَمِ الَّذِي تُعَيِّنُهُ الْعَادَةُ كَانَ فِيمَا يُعَيِّنُهُ هُوَ أَجْوَزَ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ صِحَّةُ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَحْمَدَ فِي الْأَرْجَحِ عَنْهُ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ شَعْبَانَ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ إِلَّا إِذَا اسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا يَسِيرًا بِحَيْثُ لَا يُتَّهَمُ أَنَّهُ قَصَدَ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةٌ، وَصَنَّفَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ