بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلِ نَصْبٍ أَيْ أُرِيدُ الْجَنَّةَ أَوْ نَحْوُهُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ هِيَ مَطْلُوبِي.
قَوْلُهُ: (إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا) أَيْ رِيحَ الْجَنَّةِ (مِنْ دُونِ أُحُدٍ)، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، (وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ وَجَدَ رِيحَ الْجَنَّةِ حَقِيقَةً أَوْ وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً ذَكَّرَهُ طِيبُهَا بِطِيبِ رِيحِ الْجَنَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ اسْتَحْضَرَ الْجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلشَّهِيدِ فَتَصَوَّرَ أَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَاتِلُ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ تُكْتَسَبُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَأشْتَاقُ لَهَا. وَقَوْلُهُ (وَاهًا) قَالَهُ إِمَّا تَعَجُّبًا وَإِمَّا تَشَوُّقًا إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهُ لَمَّا ارْتَاحَ لَهَا وَاشْتَاقَ إِلَيْهَا صَارَتْ لَهُ قُوَّةُ مَنِ اسْتَنْشَقَهَا حَقِيقَةً.
قَوْلُهُ: (قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ أَنَسٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ يُرِيدُ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَصِفَ مَا صَنَعَ أَنَسٌ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَغْنَى وَأَبْلَى فِي الْمُشْرِكِينَ.
قُلْتُ: وَقَعَ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ فَقُلْتُ أَنَا مَعَكَ فَلَمْ أسْتَطِعْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَفَى اسْتِطَاعَةَ إِقْدَامِهِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ حَتَّى وَقَعَ لَهُ مَا وَقَعَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تِلْكَ الْأَهْوَالِ بِحَيْثُ وَجَدَ فِي جَسَدِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى الثَّمَانِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَاعْتَرَفَ سَعْدُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقْدِمَ إِقْدَامَهُ وَلَا يَصْنَعَ صَنِيعَهُ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا تَأَوَّلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ.
قَوْلُهُ: (فَوَجَدْنَا بِهِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَاهُ بَيْنَ الْقَتْلَى وَبِهِ.
قَوْلُهُ: (بِضْعًا وَثَمَانِينَ) لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَيَانَ هَذَا الْبِضْعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ، وَقَوْلُهُ: (ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ) أَوْ هُنَا لِلتَّقْسِيمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَفْصِيلُ مِقْدَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِهَا وَقَدْ تُشَدَّدُ وَهُوَ مِنَ الْمُثْلَةِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ قَطْعُ الْأَعْضَاءِ مِنْ أَنْفٍ وَأُذُنٍ وَنَحْوِهَا.
قَوْلُهُ: (فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ) فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فَقَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ أُخْتُهُ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ حَسَنَ الْبَنَانِ وَالْبَنَانُ الْإِصْبَعُ، وَقِيلَ طَرَفُ الْإِصْبَعِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ الْمَذْكُورَةِ بِالشَّكِّ بِبَنَانِهِ أَوْ بِشَامَةٍ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْأُولَى أَكْثَرُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ فَكُنَّا نَقُولُ وَكَذَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ ; وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ يَزِيدَ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ، وَكَأَنَّ التَّرَدُّدَ فِيهِ مِنْ حُمَيْدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْجَزْمِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِنَّ أُخْتَهُ) كَذَا وَقَعَ هُنَا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْقَائِلَ، وَهُوَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أُخْتُهُ لِلنَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ وَاحِدًا مِنَ الرُّوَاةِ دُونَ أَنَسٍ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَلَا اسْتَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا، وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعُ، بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أُخْتُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ قِصَّتِهَا فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ. وَفِي قِصَّةِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ، وَفَضْلُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَلَوْ شَقَّ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى إِهْلَاكِهَا، وَأَنَّ طَلَبَ الشَّهَادَةِ فِي الْجِهَادِ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ التَّوَقِّي وَالتَّوَرُّعِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مِنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ وَأَفْصَحِهِ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ: أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ، وَفِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ: أَبْرَأُ إِلَيْكَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مَعَ تَغَايُرِهِمَا (١) فِي الْمَعْنَى، وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ
(١) في هامش طبعة بولاق: في نسخة "مع تقاربهما".