كَأَنْ يَدْهَمَ الْعَدُوُّ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ، وَيَتَأَدَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِهِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْهُ وَلَا تَجِبُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ اتِّفَاقًا فَلْيَكُنْ بَدَلُهَا كَذَلِكَ، وَقِيلَ يَجِبُ كُلَّمَا أَمْكَنَ وَهُوَ قَوِيٌّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى أَنْ تَكَامَلَتْ فُتُوحُ مُعْظَمِ الْبِلَادِ وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ ثُمَّ صَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالتَّحْقِيقُ أَيْضًا أَنَّ جِنْسَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِمَّا بِيَدِهِ وَإِمَّا بِلِسَانِهِ وَإِمَّا بِمَالِهِ وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ ﷿: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا﴾ الْآيَةَ) هَذِهِ الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَالْأَمْرُ فِيهَا مُقَيَّدٌ بِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَاتَبَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالنَّفِيرِ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا﴾ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدَّمَ آيَةَ الْأَمْرِ عَلَى آيَةِ الْعِتَابِ لِعُمُومِهَا، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الضُّحَى قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ بَرَاءَةٌ ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا﴾ وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعُمُومَ فَلَمْ يَكُونُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْغَزْوِ حَتَّى مَاتَ مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَغَيْرُهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ خِفَافًا وَثِقَالًا: مُتَأَهِّبِينَ أَوْ غَيْرَ مُتَأَهِّبِينَ نِشَاطًا أَوْ غَيْرَ نِشَاطٍ، وَقِيلَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾ الْآيَةَ) قَالَ الطَّبَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ خَاصًّا وَالْمُرَادُ بِهِ مَنِ اسْتَنْفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَامْتَنَعَ، وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ ثُمَّ تَعَقَّبَ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَطَرِيقُ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ حَسَنٍ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ انْفِرُوا ثُبَاتٍ سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِهَذَا، أَيِ اخْرُجُوا سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا أَيْ مُجْتَمِعِينَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا﴾ وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَا نَسْخَ، بَلِ الرُّجُوعُ فِي الْآيَتَيْنِ إِلَى تَعْيِينِ الْإِمَامِ وَإِلَى الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ):
وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْقَابِسِيِّ ثُبَاتًا بِالْأَلِفِ، وَهُوَ غَلَطٌ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ جَمْعٌ ثُبَةٍ كَمَا سَتَرَى.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: وَاحِدُ الثُّبَاتِ: ثُبَةٌ) أَيْ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ وَزَادَ: وَمَعْنَاهَا جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ قَالَ: وَقَدْ يُجْمَعُ ثُبَةٌ عَلَى ثِبِينَ وَقَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ مِنْ هَذَا ثُبَةُ الْحَوْضِ وَهُوَ وَسَطُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَثُوبُ إِلَيْهِ أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَجْتَمِعُ فِيهِ لِأَنَّهَا مِنْ ثَابَ يَثُوبُ وَتَصْغِيرُهَا ثُوَيْبَةٌ، وَثُبَةٌ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنْ ثَبَا يَثْبُو وَتَصْغِيرُهَا ثُبَيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) أَيْ فَتْحِ مَكَّةَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْهِجْرَةُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَحَاجَتِهِمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ عَدُوٌّ انْتَهَى. وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَى ذَوِيهِ (١) مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
(١) في هامش طبعة بولاق: في نسخة "من أذى من يؤذيه".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute