للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الرِّوَايَتَيْنِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَقَامَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الْآيَةَ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ إِلَى أَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى الصَّبْرِ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ وَالسَّكِينَةُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي مَوْقِفِ الْحَرْبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَضْمَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يَفِرُّوا فَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا ذَكَرَ الْآيَةَ عَقِبَ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ الْمُبَايَعَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْمَوْتِ، وَوَجْهُ انْتِزَاعِ ذَلِكَ مِنْهَا أَنَّ الْمُبَايَعَةَ فِيهَا مُطْلَقَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ - وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ - أَنَّهُ بَايَعَ عَلَى الْمَوْتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ: بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَعَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمَوْتِ أَنْ لَا يَفِرُّوا وَلَوْ مَاتُوا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقَعَ الْمَوْتُ وَلَا بُدَّ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ نَافِعٌ وَعَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ أَيْ: عَلَى الثَّبَاتِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ سَوَاءٌ أَفْضَى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ أَمْ لَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مُوَافَقَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ - وَالِدِ سَعِيدٍ -، لِابْنِ عُمَرَ عَلَى خَفَاءِ الشَّجَرَةِ، وَبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِهَا افْتِتَانٌ لِمَا وَقَعَ تَحْتَهَا مِنَ الْخَيْرِ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَمَا أُمِنَ تَعْظِيمُ بَعْضِ الْجُهَّالِ لَهَا حَتَّى رُبَّمَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ لَهَا قُوَّةَ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ كَمَا نَرَاهُ الْآنَ مُشَاهَدًا فِيمَا هُوَ دُونَهَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ: كَانَ خَفَاؤُهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ، أَيْ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ مَوْضِعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَحِلَّ رِضْوَانِهِ لِنُزُولِ الرِّضَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ فيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا - أَيِ النَّبِيَّ تَحْتَهَا أَيْ: فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ.

قَوْلُهُ: (فَسَأَلْنَا نَافِعًا) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ نَافِعًا إِنَّمَا جَزَمَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِمَا فَهِمَهُ عَنْ مَوْلَاهُ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ مُسْنَدًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

ثَانِيهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَيِ: ابْنِ عَاصِمٍ، الْأَنْصَارِيِّ الْمَازِنِيِّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ) أَيِ: الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ) أَيْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الَّذِي يُعْرَفُ أَبُوهُ بِغَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ، وَالسَّبَبُ فِي تَلْقِيبِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ بِأُحُدٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلِقَتِ امْرَأَتُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَمَاتَ النَّبِيُّ وَلَهُ سَبْعُ سِنِينَ وَقَدْ حَفِظَ عَنْهُ. وَأَتَى الْكِرْمَانِيُّ بِأُعْجُوبَةٍ فَقَالَ: ابْنُ حَنْظَلَةَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ يَزِيدَ لِأَنَّ جَدَّهُ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يُكَنَّى أَيْضًا أَبَا حَنْظَلَةَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَنْظَلَةَ، ثُمَّ حُذِفَ لَفْظُ أَبِي تَخْفِيفًا، أَوْ يَكُونُ نُسِبَ إِلَى عَمِّهِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ اسْتِخْفَافًا وَاسْتِهْجَانًا وَاسْتِبْشَاعًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُرَّةِ انْتَهَى. وَلَقَدْ أَطَالَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ، وَأَتَى بِغَيْرِ الصَّوَابِ. وَلَوْ رَاجَعَ مَوْضِعًا آخَرَ مِنَ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ لَرَأَى فِيهِ مَا نَصُّهُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يُبَايِعُونَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: عَلَامَ يُبَايِعُ حَنْظَلَةُ النَّاسَ؟ الْحَدِيثَ.

وَهَذَا الْمَوْضِعُ فِي أَثْنَاءِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، فَهَذَا يَرُدُّ احْتِمَالَهُ الثَّانِي، وَأَمَّا احْتِمَالُهُ الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ اتِّفَاقُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى أَنَّ الْأَمِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاويَةَ اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ لَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ، وَأَنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ كَانَ الْأَمِيرَ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ كَانَ الْأَمِيرَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَأَنَّهُمَا قُتِلَا جَمِيعًا فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (لَا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: