الْأُمِّيِّينَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانَ ابْنُ صَيَّادٍ مِنْهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِبَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَكِنْ يَدَّعُونَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْعَرَبِ، وَفَسَادُ حُجَّتِهِمْ وَاضِحٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَقَرُّوا بِأَنَّهُ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَى الْعَرَبِ وَإِلَى غَيْرِهَا تَعَيَّنَ صِدْقُهُ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْتَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟.
قَوْلُهُ: (قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) وَلِلْمُسْتَمْلِي: وَرَسُولِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، إِنَّمَا عَرَضَ النَّبِيُّ ﷺ الْإِسْلَامَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الدَّجَّالَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ. قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَمْرَهُ كَانَ مُحْتَمَلًا، فَأَرَادَ اخْتِبَارَهُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَجَابَ غَلَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ تَمَادَى الِاحْتِمَالُ، أَوْ أَرَادَ بِاسْتِنْطَاقِهِ إِظْهَارَ كَذِبِهِ الْمُنَافِي لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ أَجَابَهُ بِجَوَابٍ مُنْصِفٍ، فَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانَ ابْنُ صَيَّادٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَهَنَةِ، يُخْبِرُ بِالْخَبَرِ فَيَصِحُّ تَارَةً وَيَفْسُدُ أُخْرَى، فَشَاعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي شَأْنِهِ وَحْيٌ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ سُلُوكَ طَرِيقَةٍ يَخْتَبِرُ حَالَهُ بِهَا، أَيْ: فَهُوَ السَّبَبُ فِي انْطِلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: وَلَدَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ غُلَامًا مَمْسُوحَةٌ عَيْنُهُ، وَالْأُخْرَى طَالِعَةٌ نَاتِئَةٌ، فَأَشْفَقَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّجَّالُ.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا: يَمْكُثُ أَبُو الدَّجَّالِ وَأُمُّهُ ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَهُمَا، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَضَرُّ شَيْءٍ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، قَالَ: وَنَعَتَهُمَا، فَقَالَ: أَمَّا أَبُوهُ فَطَوِيلٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ، وَأَمَّا أُمُّهُ ففَرْضَاخَةٌ - أَيْ: بِفَاءِ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ وَبِمُعْجَمَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا ضَخْمَةٌ طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ - قَالَ: فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ - يَعْنِي ابْنَ صَيَّادٍ - فَإِذَا هُمَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ ﷺ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ: سَلْهَا كَمْ حَمَلَتْ بِهِ؟ فَقَالَتْ: حَمَلْتُ بِهِ اثَّنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، فَلَمَّا وَقَعَ صَاحَ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ابْنِ شَهْرٍ انْتَهَى، فَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي إِرَادَةِ اسْتِكْشَافِ أَمْرِهِ.
قَوْلُهُ: (مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَنَحْوِهِ لِمُسْلِمٍ: فَقَالَ: أَرَى حَقًّا وَبَاطِلًا، وَأَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ: أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا وَلِأَحْمَدَ أَرَى عَرْشًا عَلَى الْبَحْرِ حَوْلَهُ الْحِيتَانُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لُبِسَ) بِضَمِّ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، أَيْ: خُلِطَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ أَحْمَدَ فَقَالَ: تَعُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا.
قَوْلُهُ: (إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خِبْئًا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، وَبِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزٌ، أَيْ: أَخْفَيْتُ لَكَ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (هُوَ الدُّخُّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ الْفَتْحَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ الزَّخُّ بِفَتْحِ الزَّايِ بَدَلَ الدَّالِّ وَفَسَّرَهُ بِالْجِمَاعِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَغْلِيظِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَرُدُّهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورِ: فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: الدُّخَانَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ: الدُّخُّ، وَلِلْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ خَبَّأَ لَهُ سُورَةَ الدُّخَانِ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ السُّورَةَ، وَأَرَادَ بَعْضَهَا؛ فَإِنَّ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَخَبَّأْتُ لَهُ: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ صَيَّادٍ بِالدُّخِّ، فَقِيلَ: إِنَّهُ انْدَهَشَ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ لَفْظِ الدُّخَانِ إِلَّا عَلَى بَعْضِهِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْآيَةَ حِينَئِذٍ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي يَدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمْ يَهْتَدِ ابْنُ صَيَّادٍ مِنْهَا إِلَّا لِهَذَا الْقَدْرِ النَّاقِصِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَهَنَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: لَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ أَيْ: قَدْرَ مِثْلِكَ مِنَ الْكُهَّانِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ مِنْ إِلْقَاءِ شَيَاطِينِهِمْ مَا يَحْفَظُونَهُ مُخْتَلَطًا صِدْقُهُ بِكَذِبِهِ.
وَحَكَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ أَنَّ السِّرَّ فِي