وَأَنَّ أَصْلَ لَوَاقِحَ مَلَاقِحُ وَوَاحِدُهَا مُلَقِّحَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وِفَاقًا لِابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُمَا قَالُوا: لَوَاقِحُ جَمْعُ لَاقِحَةٍ وَلَاقِحٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَإِنْ قِيلَ الرِّيحُ مُلَقِّحَةٌ لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ الشَّجَرَ فَكَيْفَ قِيلَ لَهَا لَوَاقِحُ؟ فَالْجَوَابُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُجْعَلَ الرِّيحَ هِيَ الَّتِي تُلَقِّحُ بِمُرُورِهَا عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ فَيَكُونُ فِيهَا اللِّقَاحُ، فَيُقَالُ رِيحٌ لَاقِحٌ كَمَا يُقَالُ مَاءٌ مَلَاقِحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ وَصْفُ رِيحِ الْعَذَابِ بِأَنَّهَا عَقِيمٌ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ وَصْفَهَا بِاللَّقْحِ لِكَوْنِ اللَّقْحِ يَقَعُ فِيهَا كَمَا تَقُولُ: لَيْلٌ نَائِمٌ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهَا لَاقِحَةٌ مِنْ وَجْهٍ مُلَقِّحَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ لَقْحَهَا حَمْلُهَا الْمَاءَ، وَإِلْقَاحُهَا عَمَلُهَا فِي السَّحَابِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيَاحَ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ فَتُلَقِّحُ السَّحَابَ، وَتَمُرُّ بِهِ فَتُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ، ثُمَّ تُمْطِرُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: جَعَلَ الرِّيحَ لَاقِحًا لِأَنَّهَا تُقِلُّ السَّحَابَ وَتَصْرِفُهُ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ فَتَسْتَدِرُّهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلرِّيحِ الْجَنُوبِ: لَاقِحٌ وَحَامِلٌ، وَلِلشَّمَالِ: حَائِلٌ وَعَقِيمٌ.
قَوْلُهُ: ﴿إِعْصَارٌ﴾ رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾ وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِهِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: الْإِعْصَارُ الرِّيحُ، وَالنَّارُ السَّمُومُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْإِعْصَارُ رِيحٌ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِيهِ نَارٌ﴾
قَوْلُهُ: ﴿صِرٌّ﴾ بَرْدٌ) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصِّرُّ شِدَّةُ الْبَرْدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: ﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾ يَقُولُ: صِرٌّ بَرْدٌ. كَذَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (نُشُرًا مُتَفَرِّقَةً) هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ: (نُشُرًا) أَيْ مِنْ كُلِّ مَهَبٍّ وَجَانِبٍ وَنَاحِيَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَكَمِ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِالْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورٌ هِيَ الرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ، وَالدَّبُورُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ مُقَابِلُهَا، يُشِيرُ ﷺ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْأَحْزَابِ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَكَانَتْ عَذَابًا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَقِيلَ إِنَّ الصَّبَا هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ رِيحَ قَمِيصِ يُوسُفَ إِلَى يَعْقُوبَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ، وَفِيهِ إِخْبَارُ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ لَا عَلَى الْفَخْرِ، وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَإِهْلَاكِهَا.
ثَانِيهِمَا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ (مَخِيلَةٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ هِيَ السَّحَابَةُ الَّتِي يُخَالُ فِيهَا الْمَطَرُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ أَمْطَرَتْ إِلَّا فِي الْعَذَابِ، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَيُقَالُ مَطَرَتْ، وَقَوْلُهُ سُرِّيَ عَنْهُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بِلَفْظِ الْمَجْهُولِ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ تَذَكُّرُ مَا يَذْهَلُ الْمَرْءُ عَنْهُ مِمَّا وَقَعَ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ السَّيْرِ فِي سَبِيلِهِمْ خَشْيَةً مِنْ وُقُوعِ مِثْلِ مَا أَصَابَهُمْ. وَفِيهِ شَفَقَتُهُ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ وَرَأْفَتُهُ بِهِمْ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْشَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُعَذَّبَ الْقَوْمُ وَهُوَ فِيهِمْ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى كَرَامَةٍ لَهُ ﷺ وَرِفْعَةٍ، فَلَا يُتَخَيَّلُ انْحِطَاطُ دَرَجَتِهِ أَصْلًا. قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ كَانَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِ، كَانَ إِذَا رَأَى فَعَلَ كَذَا.
وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ بِالْمَذْكُورِينَ أَوْ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَوْ مَقَامُ الْخَوْفِ يَقْتَضِي غَلَبَةُ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَأَوْلَى مِنَ الْجَمِيعِ أَنْ يُقَالَ خَشِيَ عَلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ فِيهِمْ أَنْ يَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ،