الصَّرَعِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ الْمُتَمَرِّدُ مِنَ الْجِنِّ، وَكَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْجِنِّ جِدًّا وَيَرَوْنَ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْخَوَارِقِ مِنْ فِعْلِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ) أَيْ وَهَبَهَا لَهَا لِتَخْدُمَهَا لِأَنَّهُ أَعْظَمَهَا أَنْ تَخْدِمَ نَفْسَهَا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي وَأَعْطِهَا آجَرَ، ذَكَرَهَا بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْهَاءِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَالْجِيمُ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهِيَ اسْمٌ سُرْيَانِيٌّ، وَيُقَالُ إِنَّ أَبَاهَا كَانَ مِنْ مُلُوكِ الْقِبْطِ وَإِنَّهَا مِنْ حَفْنَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ قَرْيَةٌ بِمِصْرَ، قَالَ الْيَعْقُوبِيُّ: كَانَتْ مَدِينَةٌ انْتَهَى، وَهِيَ الْآنَ كَفْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلِصْنَا بِالْبَرِّ الشَّرْقِيِّ مِنَ الصَّعِيدِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَشْمُونَيْنِ، وَفِيهَا آثَارٌ عَظِيمَةٌ بَاقِيَةٌ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَتْهُ) فِي رِوَايَةٍ الأعرج: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ.
قَوْلُهُ: (مَهْيَمْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي مَتهْيًا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ مَهْيَنْ بِنُونٍ وَهِيَ بَدَلُ الْمِيمِ، وَكَأَنَّ الْمُسْتَمْلِيَ لَمَّا سَمِعَهَا بِنُونٍ ظَنَّهَا نُونَ تَنْوِينٍ، وَيُقَالُ أنَّ الْخَلِيلَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَمَعْنَاهَا مَا الْخَبَرُ.
قَوْلُهُ: (رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ - أَوِ الْفَاجِرِ - فِي نَحْرِهِ) هَذَا مَثَلٌ تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِمَنْ أَرَادَ أَمْرًا بَاطِلًا فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً، أَيْ جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ، وَكَبَتَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ أَيْ رَدَّهُ خَاسِئًا، وَيُقَالُ أَصْلُهُ كَبَدَ أَيْ بَلَغَ الْهَمُّ كَبِدَهُ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الدَّالُ مُثَنَّاةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَخْدَمَ مَعْطُوفًا عَلَى كَبَتَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ أَخْدَمَ هُوَ الْكَافِرُ فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) كَأَن خَاطَبَ بِذَلِكَ الْعَرَبَ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِمْ لِلْفَلَوَاتِ الَّتِي بِهَا مَوَاقِعُ الْقَطْرِ لِأَجْلِ رَعْيِ دَوَابِّهِمْ، فَفِيهِ تَمَسُّكٌ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِمَاءِ السَّمَاءِ زَمْزَمَ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْبَعَهَا لِهَاجَرَ فَعَاشَ وَلَدُهَا بِهَا فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ أَوْلَادُهَا، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقَالُ لَهُ مَاءُ السَّمَاءِ، لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَلَدُ هَاجَرَ وَقَدْ رُبِّيَ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَهِيَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ.
وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِخُلُوصِ نَسَبِهِمْ وَصَفَائِهِ فَأَشْبَهَ مَاءَ السَّمَاءِ وَعَلَى هَذَا فَلَا مُتَمَسِّكَ فِيهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَاءِ السَّمَاءِ عَامِرُ وَلَدُ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ بُقْيَا بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْغِطْرِيفِ وَهُوَ جَدُّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، قَالُوا: إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا قَحِطَ النَّاسُ أَقَامَ لَهُمْ مَالَهُ مَقَامَ الْمَطَرِ، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِبَاحَةُ الْمَعَارِيضِ، وَالرُّخْصَةُ فِي الِانْقِيَادِ لِلظَّالِمِ وَالْغَاصِبِ، وَقَبُولُ صِلَةِ الْمَلِكِ الظَّالِمِ، وَقَبُولُ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِ، وَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَكِفَايَةُ الرَّبِّ لِمَنْ أَخْلَصَ فِي الدُّعَاءِ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ. وَفِيهِ ابْتِلَاءُ الصَّالِحِينَ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُقَالُ أنَّ اللَّهَ كَشَفَ لِإِبْرَاهِيمَ حَتَّى رَأَى حَالَ الْمَلِكِ مَعَ سَارَةَ مُعَايَنَةً وَأنَّهُ لَمْ يَصِلْ مِنْهَا إِلَى شَيْءٍ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي التِّيجَانِ وَلَفْظُهُ: فَأَمَرَ بِإِدْخَالِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَّةَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَحَّى إِبْرَاهِيمَ إِلَى خَارِجِ الْقَصْرِ وَقَامَ إِلَى سَارَةَ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقَصْرَ لِإِبْرَاهِيمَ كَالْقَارُورَةِ الصَّافِيَةِ فَصَارَ يَرَاهُمَا وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمَا، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ نَابَهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ مِنَ الْكَرْبِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَشْرُوعًا لِلْأُمَمِ قَبْلَنَا وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بِالْأَنْبِيَاءِ، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ سَارَةَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَوِ ابْنُ سَلَامٍ عَنْهُ) كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ شَكَّ فِي سَمَاعِهِ لَهُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى - وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ مَشَايِخِهِ - وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْهُ فَأَوْرَدَهُ هَكَذَا، وَقَدْ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ هَذَا فِي أَمَاكِنَ عَدِيدَةٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) هُوَ ابْنُ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَنيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ حِجَازِيُّونَ مِنَ ابْنِ جُرَيْجٍ فَصَاعِدًا، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَأَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ.
قَوْلُهُ: (أُمِّ شَرِيكٍ) فِي رِوَايَةِ