وَسُلَيْمَانَ لَمَّا بَنَيَا الْمَسْجِدَيْنِ ابْتَدَآ وَضْعَهُمَا لَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ تَجْدِيدٌ لِمَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرُهُمَا.
قُلْتُ: وَقَدْ مَشَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: فِي هَذَا الْخَبَرِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْنَ إِسْمَاعِيلَ وَدَاوُدَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ لِطُولِ الزَّمَانِ - بِالِاتِّفَاقِ - بَيْنَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ ﵇ الْبَيْتَ وَبَيْنَ مُوسَى ﵇. ثُمَّ إِنَّ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ قِصَّةَ دَاوُدَ فِي قَتْلِ جَالُوتَ كَانَتْ بَعْدَ مُوسَى بِمُدَّةٍ. وَقَدْ تَعَقَّبَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ بِنَحْوِ مَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى أَوَّلَ مَا وَضَعَ بِنَاءَهُ بَعْضُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ قَبْلَ دَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ ثُمَّ دَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ فَزَادَا فِيهِ وَوَسَّعَاهُ فَأُضِيفَ إِلَيْهِمَا بِنَاؤُهُ، قَالَ: وَقَدْ يُنْسَبُ هَذَا الْمَسْجِدُ إِلَى إِيلِيَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ بَانِيهِ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَسْتُ أُحَقِّقُ لِمَ أُضِيفَ إِلَيْهِ، قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا مُوَجَّهٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِغَيْرِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسَّسَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى آدَمُ ﵇، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: سَامُ بْنُ نُوحٍ ﵇، وَقِيلَ: يَعْقُوبُ ﵇، فَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ يَكُونُ مَا وَقَعَ مِمَّنْ بَعْدَهُمَا تَجْدِيدًا كَمَا وَقَعَ فِي الْكَعْبَةِ، وَعَلَى الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ الْوَاقِعُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَوْ يَعْقُوبَ أَصْلًا وَتَأْسِيسًا وَمِنْ دَاوُدَ تَجْدِيدًا لِذَلِكَ وَابْتِدَاءَ بِنَاءٍ فَلَمْ يَكْمُلْ عَلَى يَدِهِ حَتَّى أَكْمَلَهُ سُلَيْمَانُ ﵇، لَكِنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَوْجَهُ.
وَقَدْ وَجَدْتُ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ آدَمَ هُوَ الَّذِي أَسَّسَ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدَيْنِ، فَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي كِتَابِ التِّيجَانِ أَنَّ آدَمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْرِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنْ يَبْنِيَهُ فَبَنَاهُ وَنَسَكَ فِيهِ، وَبِنَاءُ آدَمَ لِلْبَيْتِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الْبَيْتَ رُفِعَ زَمَنَ الطُّوفَانِ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَضَعَ اللَّهُ الْبَيْتَ مَعَ آدَمَ لَمَّا هَبَطَ، فَفَقَدَ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَتَسْبِيحَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: يَا آدَمُ إِنِّي قَدْ أَهْبَطْتُ بَيْتًا يُطَافُ بِهِ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ آدَمُ إِلَى مَكَّةَ ; وَكَانَ قَدْ هَبَطَ بِالْهِنْدِ وَمُدَّ لَهُ فِي خَطْوِهِ فَأَتَى الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَاتَّخَذَ فِيهِ مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ لِيَكُونَ قِبْلَةً لِبَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ. وَأَمَّا ظَنُّ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ إِيلِيَاءَ اسْمُ رَجُلٍ فَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ اسْمُ الْبَلَدِ فَأُضِيفَ إِلَيْهِ الْمَسْجِدُ كَمَا يُقَالُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدُ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبِكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ: إِيلِيَاءُ مَدِينَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: مَدُّ آخِرِهِ وَقَصْرُهُ وَحَذْفُ الْيَاءِ الْأُولَى، قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
لَوَى ابْنُ أَبِي الرَّقْرَاقِ عَيْنَيْهِ بَعْدَمَا … دَنَا مِنْ أَعَالِي إِيلِيَاءَ وَغَوْرَا
وَعَلَى مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِ بَانِيهَا كَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَهْ) بِهَاءٍ سَاكِنَةٍ وَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِهَا.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ) أَيْ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَ وَقْتُهَا، زَادَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي آخِرِهِ وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ أَيْ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي جَامِعِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ أَيْ صَالِحَةٌ لِلصَّلَاةِ فِيهَا. وَيُخَصُّ هَذَا الْعُمُومُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّهْيُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ مَوْصُولًا وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مُعَلَّقًا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَذِكْرُ أُحُدٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُمَا ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مَوْصُولًا هُنَاكَ.
الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) يَعْنِي أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ مَالِكٍ كمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute