وَفِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ النَّقْلُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَيَاتِهِمْ. قُلْتُ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ كَوْنُ الشُّهَدَاءِ أَحْيَاءٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الشُّهَدَاءِ. وَمِنْ شَوَاهِدِ الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَقَالَ فِيهِ: وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ. سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ بِلَفْظِ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْتُهُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَفَعَهُ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَّمْتَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَمِمَّا يُشْكِلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ ﵇. وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ يَقْتَضِي انْفِصَالَهَا عَنْهُ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي أَنَّ رَدَّ رُوحِهِ كَانَتْ سَابِقَةً عَقِبَ دَفْنِهِ لَا أَنَّهَا تُعَادُ ثُمَّ تُنْزَعُ ثُمَّ تُعَادُ.
الثَّانِي: سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ نَزْعَ مَوْتٍ بَلْ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ.
الرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ النُّطْقُ فَتَجُوزُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ خِطَابِنَا بِمَا نَفْهَمُهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي أُمُورِ الْمَلَإِ الْأَعْلَى، فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهْمُهُ لِيُجِيبَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْرَاقَ الزَّمَانِ كُلِّهِ فِي ذَلِكَ لِاتِّصَالِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِمَّنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ لَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَأَحْوَالُ الْبَرْزَخِ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (سَبِطَ الشَّعْرِ) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.
قَوْلُهُ: (يُهَادَى) أَيْ يَمْشِي مُتَمَايِلًا بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (يَنْطِفُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَقْطُرُ وَمِنْهُ النُّطْفَةُ ; كَذَا قَالَ الدَّاودِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: النُّطْفَةُ: الْمَاءُ الصَّافِي. وَقَوْلُهُ: أَوْ يُهَرَاقُ هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.
قَوْلُهُ: (أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُمْنَى) كَذَا هُوَ بِالْإِضَافَةِ وَعَيْنِهِ بِالْجَرِّ لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَيْنُ صَفْحَةِ وَجْهِهِ الْيُمْنَى، وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ عَيْنُهُ بِالرَّفْعِ كَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى وَصْفِهِ إنَّهُ أَعْوَرُ وَابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ صِفَةِ عَيْنِهِ فَقَالَ: عَيْنُهُ كَأَنَّهَا كَذَا وَأَبْرَزَ الضَّمِيرَ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَيْنُهُ كَأَنَّ عَيْنَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَعْوَرَ الرَّاجِعِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالصِّفَةِ كَمَا تُرْفَعُ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ أَعْوَرَ لَا يَكُونُ نَعْتًا إِلَّا لِمُذَكَّرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَيْنُهُ مُرْتَفِعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ، وَقَوْلُهُ: كَأَنَّ عِنَبَةً طَافِيَةً بِالنَّصْبِ عَلَى اسْمِ كَأَنَّ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنَّ فِي وَجْهِهِ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ
إِنْ مَحِلًّا وَإِنْ مُرْتَحَلًا
أَيْ إِنَّ لَنَا مَحِلًّا وَإِنَّ لَنَا مُرْتَحَلًا.
قَوْلُهُ: (كَأَنَّ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِغَيْرِهِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: (وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ (رَجُلٌ) أَيِ ابْنُ قَطَنٍ (مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ). قُلْتُ: اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ قَطَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جُنْدُبِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَائِد بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ، وَأُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أَفَادَهُ الدِّمْيَاطِيُّ قَالَ: وَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَكْثَمَ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ وَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَضُرُّنِي شَبَهُهُ؟ قَالَ: لَا، أَنْتَ مُسْلِمٌ وَهُوَ كَافِرٌ. حَكَاهُ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الَّذِي شَبَّهَ بِهِ ﷺ أَكْثَمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ جَدُّ خُزَاعَةَ لَا الدَّجَّالُ ; كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ ﷺ