رِوَايَةِ سَالِمٍ: وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَهُوَ مُتَّجَهٌ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا أَوْلَادَهُ فَكَذَلِكَ لَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا دَوَابَّهُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.
قَوْلُهُ: (يَتَضَاغَوْنَ) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ وَالضُّغَاءُ بِالْمَدِّ الصِّيَاحُ بِبُكَاءٍ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجُوعِ أَيْ بِسَبَبِ الْجُوعِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَعَلَّ الصِّيَاحَ كَانَ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْجُوعِ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ.
قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا) أَمَّا كَرَاهَتُهُ لِإِيقَاظِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُوقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: ثُمَّ جَلَسْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا بِإِنَائِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أُؤرِّقَهُمَا أَوْ أُوذِيَهُمَا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: كَرَاهِيَةُ أَنْ أَرُدَّ وَسَنَهُمَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ أَنْ يَدَعَهُمَا فَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا أَيْ يَضْعُفَا لِأَنَّهُ عَشَاؤُهُمَا وَتَرْكُ الْعَشَاءِ يُهْرِمُ، وَقَوْلُهُ: يَسْتَكِنَّا مِنْ الِاسْتِكَانَةِ، وَقَوْلُهُ: لِشَرْبَتِهِمَا أَيْ لِعَدَمِ شَرْبَتِهِمَا فَيَصِيرَانِ ضَعِيفَيْنِ مِسْكِينَيْنِ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ) هُوَ مُقَيَّدٌ لِإِطْلَاقِ رِوَايَةِ سَالِمٍ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، وَالْكَافُ زَائِدَةٌ، أَوْ أَرَادَ تَشْبِيهَ مَحَبَّتِهِ بِأَشَدَّ الْمَحَبَّاتِ.
قَوْلُهُ: (رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا) أَيْ بِسَبَبِ نَفْسِهَا أَوْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فَأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا أَيْ لِيَسْتَعْلِيَ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (فَأَبَتْ) فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فَقَالَتْ لَا يَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ) وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ الْمِائَةَ فَزَادَهَا هُوَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عِشْرِينَ، أَوْ أَلْغَى غَيْرُ سَالِمٍ الْكَسْرَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مِائَةَ دِينَارٍ وَأَبْهَمَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى مَالًا ضَخْمًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا زَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: وَجَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: فَلَمَّا كَشَفْتُهَا وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ سَبَبَ إِجَابَتِهَا بَعْدَ امْتِنَاعِهَا فَقَالَ: فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ - أَيْ سَنَةُ قَحْطٍ - فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ نَافِعٍ بِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ أَوَّلًا عِفَّةً وَدَافَعَتْ بِطَلَبِ الْمَالِ فَلَمَّا احْتَاجَتْ أَجَابَتْ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَفُضَّ) بِالْفَاءِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا تَكْسِرْ، وَالْخَاتَمُ كِنَايَةٌ عَنْ عُذْرَتِهَا، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا، وَكَنَّتْ عَنِ الْإِفْضَاءِ بِالْكَسْرِ، وَعَنِ الْفَرْجِ بِالْخَاتَمِ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِكْرًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ أَيْ خَاتَمِي، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الدُّعَاءِ بِلَفْظِ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ خَاتَمِي إِلَّا بِحَقِّهِ، وَقَوْلُهَا بِحَقِّهِ أَرَادَتْ بِهِ الْحَلَالَ، أَيْ لَا أَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقْرَبَنِي إِلَّا بِتَزْوِيجٍ صَحِيحٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فَقَالَتْ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَرْكَبَ مِنِّي مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ.
قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ أَخَافَ رَبِّي، وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: فَلَمَّا أَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا بَكَتْ، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: فَعَلْتُ هَذَا مِنَ الْحَاجَةِ، فَقُلْتُ: انْطَلِقِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّهَا تَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مَعْرُوفِهِ وَيَأْبَى عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَأَجَابَتْ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَتْ زَوْجَهَا فَأَذِنَ لَهَا وَقَالَ لَهَا: أَغْنِي عِيَالَكِ، قَالَ: فَرَجَعَتْ فَنَاشَدَتْنِي بِاللَّهِ فَأَبَيْتُ عَلَيْهَا، فَأَسْلَمَتْ إِلَيَّ نَفْسَهَا، فَلَمَّا كَشَفْتُهَا ارْتَعَدَتْ مِنْ تَحْتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟ قَالَتْ: أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَقُلْتُ: خِفْتِيهِ فِي الشِّدَّةِ وَلَمْ أَخَفْهُ فِي الرَّخَاءِ، فَتَرَكْتُهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: فَلَمَّا جَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ اذَّكَّرْتُ النَّارَ فَقُمْتُ عَنْهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنٌ، وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ فِي الْكَرْبِ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ