وَالْحَاكِمُ فِي قِصَّةِ رَضَاعِهِ ﷺ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْعَلَامَاتِ كَثْرَةُ اللَّبَنِ فِي ثَدْيَيْهَا، وَوُجُودُ اللَّبَنِ فِي شَارِفِهَا بَعْدَ الْهُزَالِ الشَّدِيدِ، وَسُرْعَةُ مَشْيِ حِمَارِهَا، وَكَثْرَةُ اللَّبَنِ فِي شِيَاهِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَخِصْبُ أَرْضِهَا، وَسُرْعَةُ نَبَاتِهِ، وَشَقُّ الْمَلَكَيْنِ صَدْرَهُ.
وَهَذَا الْأَخِيرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَمَعَهُ فَأَعَادَهُ مَكَانَهُ الْحَدِيثَ.
وَفِي حَدِيثِ مَخْزُومِ بْنِ هَانِئٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ قال: وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ انْكَسَرَ إِيوَانُ كِسْرَى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرَّافَةً، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ وَلَمْ تُخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَرَأَى الْمُوبِذَانُ إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ مَا وَقَعَ، فَسَأَلَ عُلَمَاءَ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ عَنْ ذَلِكَ فَأَرْسَلُوا إِلَى سَطِيحٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا أَخْرَجَهَا ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ نَحْوَ خَمْسِينَ حَدِيثًا: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ صَاحِبَةِ الْمَزَادَتَيْنِ، وَالْمُعْجِزَةُ فِيهَا تَكْثِيرُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِبَرَكَتِهِ ﷺ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ التَّيَمُّمِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إِيهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيهًا بِالتَّنْوِينِ مَعَ الْفَتْحِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ جَوَازَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي هَذِهِ. وَقَوْلُهُ: (مُؤْتِمَةٌ) أَيْ ذَاتُ أَيْتَامٍ.
وَقَوْلُهُ: (فَمَسَحَ بِالْعَزْلَاوَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْعَزْلَايْنِ وَهُمَا تَثْنِيَةُ عَزْلَاءَ بِسُكُونِ الزَّايِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ فَمُ الْقِرْبَةِ وَالْجَمْعُ عَزَالِي بِكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
قَوْلُهُ: (فَشَرِبْنَا عِطَاشًا أَرْبَعُونَ رَجُلًا) أَيْ وَنَحْنُ حِينَئِذٍ أَرْبَعُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَرْبَعِينَ بِالنَّصْبِ وَتَوْجِيهُهَا ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ تَكَادُ تَبِضُّ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ثَقِيلَةٌ أَيْ تَسِيلُ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْبَصِيصِ وَهُوَ اللَّمَعَانُ، وَمَعْنَاهُ مُسْتَبْعَدٌ هُنَا، فَإِنَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ تَكَادُ تَبُضُّ مِنَ الْمِلْءِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، فَكَوْنُهَا تَكَادُ تَسِيلُ مِنَ الْمِلْءِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهَا تَلْمَعُ مِنَ الْمِلْءِ فَبَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: تَبُضُّ بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ تُشَقُّ، يُقَالُ: بَضَّ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ إِذَا نَبَعَ، وَكَذَا بَضَّ الْعَرَقُ، قَالَ: وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى: رُوِيَ تَنِضُّ بِنُونٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَرُوِيَ تَيْصَرُ بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ وَصَادٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ رَاءٌ.
قَالَ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَاهُ تَنْشَقُّ، قَالَ: وَمِنْهُ صَيْرُ الْبَابِ أَيْ شَقُّ الْبَابِ، وَرَدَّهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ صَيْرَ عَيْنُهُ حَرْفُ عِلَّةٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ تَصَوَّرُ، وَلَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَنْصَبُّ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، فَتُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى لِأَنَّهَا بِمَعْنَى تَسِيلُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ عَنْ أَنَسٍ فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ﷺ، أَوْرَدَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ: مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَحُمَيْدٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَهُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ.
وَظَهَرَ لِي مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ فِي مَوْطِنَيْنِ لِلتَّغَايُرِ فِي عَدَدِ مَنْ حَضَرَ، وَهِيَ مُغَايَرَةٌ وَاضِحَةٌ يَبْعُدُ الْجَمْعُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَ ذَلِكَ فِيهِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَفَرٍ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ قَتَادَةَ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَسَيَأْتِي فِي غَيْرِ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَوَاطِنَ أُخَرَ.
قَالَ عِيَاضٌ: هَذِهِ الْقِصَّةُ رَوَاهَا الثِّقَاتُ مِنَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَنِ الْكَافَّةِ مُتَّصِلَةً بِالصَّحَابَةِ،