وَالصَّوَابَ النَّصْبُ لِأَنَّهُ اسْمُ إِنَّ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ أَيْ إِنَّهُ وَالْجَارَ وَالْمَجْرُورَ بَعْدَهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَأَبُو بَكْرٍ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْكُنْيَةِ اسْمٌ فَلَا يُعْرَبُ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَدَاةِ أَوْ إِنَّ بِمَعْنَى نَعَمْ أَوْ إِنَّ مِنْ زَائِدَةٌ عَلَى رَأْيِ الْكِسَائِيِّ، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: يَجُوزُ الرَّفْعُ إِذَا جَعَلْتَ مِنْ صِفَةً لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ رَجُلًا أَوْ إِنْسَانًا مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ فَيَكُونُ اسْمُ إِنَّ مَحْذُوفًا وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَقَوْلُهُ: أَبُو بَكْرٍ الْخَبَرُ، وَقَوْلُهُ أَمَنَّ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْمَنِّ بِمَعْنَى الْعَطَاءِ وَالْبَذْلِ، بِمَعْنَى إِنَّ أَبْذَلَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، لَا مِنَ الْمِنَّةِ الَّتِي تُفْسِدُ الصَّنِيعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْخَوْخَةِ وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَشَرَحَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمِنَّةِ وَقَالَ: تَقْدِيرُهُ لَوْ كَانَ يَتَوَجَّهُ لِأَحَدٍ الِامْتِنَانُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ لَتَوَجَّهَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: أَمَنَّ النَّاسِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا مِنْ فَإِنْ قُلْنَا: زَائِدَةٌ؛ فَلَا تَخَالُفَ، وَإِلَّا فَتُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لِغَيْرِهِ مُشَارَكَةً مَا فِي الْأَفْضَلِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ فِي ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ السِّيَاقِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا كَافَأْنَاهُ عَلَيْهَا ; مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ يَدٍ لِغَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ لِأَبِي بَكْرٍ رُجْحَانًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَيْثُ أَطْلَقَ أَرَادَ أَنَّهُ أَرْجَحُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَحَيْثُ لَمْ يُطْلِقْ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى مَنْ شَارَكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَوَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ نَحْوَ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَزَادَ: مِنَّةً أَعْتَقَ بِلَالًا وَمِنَّةً هَاجَرَ بِنَبِيِّهِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَعَنْهُ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى: مَا أَحَدٌ أَعْظَمَ عِنْدِي يَدًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ: وَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَأَنْكَحَنِي ابْنَتَهُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ عَلَيْنَا مَنًّا أَبُو بَكْرٍ، زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ. وَإِنَّ خَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مَالًا أَبُو بَكْرٍ، أَعْتَقَ مِنْهُ بِلَالًا، وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَأَخْرَجَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ مِقْدَارُ الْمَالِ الَّذِي أَنْفَقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَا تَرَكَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا.
قَوْلُهُ: (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمَا: أَخْبَرَنِي خَلِيلِي ﷺ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَلِيلُ النَّبِيِّ ﷺ وَلِهَذَا يُقَالُ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ: اللَّهُ خَلِيلُ إِبْرَاهِيمَ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ) أَيْ حَاصِلَةٌ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي بَعْدَ بَابٍ أَفْضَلُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ تَمَّامٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِلَفْظِ: وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بِلَفْظِ: وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ، فَإِنَّ الْخُلَّةَ أَفْضَلُ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَزِيَادَةً، فَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ مَوَدَّةَ الْإِسْلَامِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ أَفْضُلُ مِنْ مَوَدَّتِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: أَفْضَلُ بِمَعْنَى فَاضِلٍ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ اشْتَرَاكُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْفَضِيلَةِ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ أَبِي بَكْرٍ عُرِفَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ مُتَفَاوِتَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَصْرِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَتَحْصِيلِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ، وَلِأَبِي بَكْرٍ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُهُ وَأَكْثَرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَلَكِنْ خُوَّةُ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا أَعْرِفُ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَمْ أَجِدْ خُوَّةً بِمَعْنَى خُلَّةٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute