إِلَى أَنَّهُ الْأَحَقُّ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَصْرِيحٌ بِتَخَلِّيهِ مِنَ الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ) قَدْ أَفْرَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ شَيْخِ الْمُصَنِّفِ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَنْتَ سَيِّدُنَا إِلَخْ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَوْضَحُ مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ حَتَّى خَشِينَا الِاخْتِلَافَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ الْأَنْصَارُ وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ فَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ وَثَبَ أَهْلُ السَّقِيفَةِ يَبْتَدِرُونَ الْبَيْعَةَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وغيره فِي قِصَّةِ الْوَفَاةِ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ عُمَرُ - وَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ - أَسَيْفَانِ فِي غِمْدٍ وَاحِدٍ؟ لَا يَصْطَلِحَانِ، وَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: مَنْ لَهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ؟ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ مَنْ هُمَا؟ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ مَنْ صَاحِبُهُ؟ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا مَعَ مَنْ؟ ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ ثُمَّ قَالَ: بَايِعُوهُ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) أَيْ كِدْتُمْ تَقْتُلُونَهُ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ وَالْخِذْلَانِ، وَيَرُدُّهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ أبي شِهَابٍ فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَبْقُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَا تَطَئُوهُ، فَقَالَ عُمَرُ: اقْتُلُوهُ قَتَلَهُ اللَّهُ. نَعَمْ لَمْ يُرِدْ عُمَرُ الْأَمْرَ بِقَتْلِهِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَتَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ إِهْمَالِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ فَقُلْتُ وَأَنَا مُغْضَبٌ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا فَإِنَّهُ صَاحِبُ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَإِنَّمَا قَالَتِ الْأَنْصَارُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ عَلَى مَا عَرَفُوهُ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَتَأَمَّرَ عَلَى الْقَبِيلَةِ إِلّ امَنْ يَكُونُ مِنْهَا، فَلَمَّا سَمِعُوا حَدِيثَ: الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَأَذْعَنُوا.
قُلْتُ حَدِيثُ: الْأَئِمَّةُ مِنَ قُرَيْشٍ سَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ أَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ (١)، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَّا بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ جَمَعْتُ طُرُقَهُ عَنْ نَحْوِ أَرْبَعِينَ صَحَابِيًّا لَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ فُضَلَاءِ الْعَصْرِ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ إِلَّا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الدَّاوُدِيُّ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْخَلِيفَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا مُدَّة لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ حَتَّى بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ، وَتُعُقِّبَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا وَبِأَنَّهُمْ تَرَكُوا لِأَجْلِ إِقَامَتِهَا أَعْظَمَ الْمُهِمَّاتِ وَهُوَ التَّشَاغُلُ بِدَفْنِ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهَا، وَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ زَمَنٌ يَسِيرٌ فِي بَعْضِ يَوْمٍ يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ لِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِ الْأَنْصَارِ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ عُمَرُ كَمَا سَيَأْتِي ; وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ فِي مَقَامِ مَنْ لَا يَخَافُ شَيْئًا وَلَا يَتَّقِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُسْتَخْلِفًا؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ. قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ. قِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. وَوَجَدْتُ فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: لَوْ كَانَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ نَصٌّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ لِلْخِلَافَةِ لَمَا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَلَا تَفَاوَضُوا فِيهِ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاسْتَنَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَصَّ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بِأُصُولٍ كُلِّيَّةٍ وَقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ تَقْتَضِي أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بِالْخِلَافَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا
(١) فى هامش طبعة بولاتى: في نسخة "فى كتاب الاعتصام"
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute