قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ مُعَاوِيَةَ) أَيِ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْمُهُ صَخْرٌ، وَيُكَنَّى أَيْضًا أَبَا حَنْظَلَةَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَأَسْلَمَ أَبَوَاهُ بَعْدَهُ، وَصَحِبَ النَّبِيَّ ﷺ وَكَتَبَ لَهُ، وَوَلِيَ إِمْرَةَ دِمَشْقَ عَنْ عُمَرَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ زَمَانَ مُحَارَبَتِهِ لِعَلِيٍّ، وَلِلْحَسَنِ، ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَيْنَ إِمَارَةٍ وَمُحَارَبَةٍ وَمَمْلَكَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمُعَافَى) هُوَ ابْنُ عِمْرَانَ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ يُكَنَّى أَبَا مَسْعُودٍ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ النُّبَلَاءِ، وَقَدْ لَقِيَ بَعْضَ التَّابِعِينَ، وَتَلْمَذَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَكَانَ يُلَقَّبُ يَاقُوتَةَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ شَدِيدَ التَّعْظِيمِ لَهُ، مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةً، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَوْضِعٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَفِي الرُّوَاةِ آخَرَ يُقَالُ لَهُ: الْمُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ أَصْغَرُ مِنْ هَذَا، وَوَهَمَ مَنْ عَكَسَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ التِّينِ، وَمَاتَ الْمُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، أَخْرَجَ لَهُ النَّسَائِيُّ وَحْدَهُ وَأَخْرَجَ لِلْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ مَعَ الْبُخَارِيِّ، أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ) هُوَ كُرَيْبٌ، رَوَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الْوِتْرِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ كُرَيْبٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ مَعَ أَبِي عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَرَأَيْتُهُ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، هُوَ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: دَعْهُ) فِيهِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، تَقْدِيرُهُ: فَأَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ فَحَكَى لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: دَعْهُ، وَقَوْلُهُ: دَعْهُ أَيِ اتْرُكِ الْقَوْلَ فِيهِ وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ أَيْ فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا إِلَّا بِمُسْتَنَدٍ. وَفِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (أَصَابَ، إِنَّهُ فَقِيهٌ) مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ ابْنِ التِّينِ: إِنَّ الْوِتْرَ بِرَكْعَةٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ الْفُقَهَاءُ، لِأَنَّ الَّذِي نَفَاهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَثَبَتَ فِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، نَعَمُ الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا شَفْعٌ وَأَقَلُّهُ رَكْعَتَانِ، وَاخْتُلِفَ أَيُّمَا الْأَفْضَلُ وَصْلُهُمَا بِهَا أَوْ فَصْلُهُمَا؟ وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى شَرْطِيَّةِ وَصْلِهِمَا وَأَنَّ الْوِتْرَ بِرَكْعَةٍ لَا يُجْزِئُ وَشُهْرَةُ ذَلِكَ تُغْنِي عَنِ الْإِطَالَةِ فِيهِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ صَحِبْنَا النَّبِيَّ ﷺ وَالْكَلَامُ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ تَقَدَّمَ فِي مَكَانِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
(تَنْبِيهٌ): عَبَّرَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ: ذِكْرُ وَلَمْ يَقُلْ فَضِيلَةٌ وَلَا مَنْقَبَةٌ لِكَوْنِ الْفَضِيلَةِ لَا تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ شَهَادَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ بِالْفِقْهِ وَالصُّحْبَةِ دَالَّةٌ عَلَى الْفَضْلِ الْكَثِيرِ، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ جُزْءًا فِي مَنَاقِبِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ، وَأَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرُوهَا ثُمَّ سَاقَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ فِي فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ، فَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي عُدُولِ الْبُخَارِيِّ عَنِ التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ مَنْقَبَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ، لَكِنْ بِدَقِيقِ نَظَرِهِ اسْتَنْبَطَ مَا يَدْفَعُ بِهِ رُءُوسَ الرَّوَافِضِ، وَقِصَّةُ النَّسَائِيِّ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ، وَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ إِسْحَاقَ، وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْحَاكِمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي مَا تَقُولُ فِي عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ؟ فَأَطْرَقَ ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ كَثِيرَ الْأَعْدَاءِ فَفَتَّشَ أَعْدَاؤُهُ لَهُ عَيْبًا فَلَمْ يَجِدُوا، فَعَمَدُوا إِلَى رَجُلٍ قَدْ حَارَبَهُ فَأَطْرَوْهُ كِيَادًا مِنْهُمْ لِعَلِيٍّ، فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا اخْتَلَقُوهُ لِمُعَاوِيَةَ مِنَ الْفَضَائِلِ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا مَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute