أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاق، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا - وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ.
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ:
قَوْلُهُ: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ) يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَأُمَّ رُومَانَ.
قَوْلُهُ: (يَدِينَانِ الدِّينَ) بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ يَدِينَانِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى التَّجَوُّزِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ) أَيْ بِأَذَى الْمُشْرِكِينَ لَمَّا حَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ وَأَذِنَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ) أَيْ لِيَلْحَقَ بِمَنْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ أَوَّلًا سَارُوا إِلَى جِدَّةَ وَهِيَ سَاحِلُ مَكَّةَ لِيَرْكَبُوا مِنْهَا الْبَحْرَ إِلَى الْحَبَشَةِ.
قَوْلُهُ: (بَرْكَ الْغِمَادِ) أَمَّا بَرْكُ فَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا كَافٌ وَحُكِيَ كَسْرُ أَوَّلِهِ، وَأَمَّا الْغِمَادُ فَهُوَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَقَدْ تُضَمُّ وَبِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ فِيهَا ضَمَّ الْغَيْنِ، مَوْضِعٌ عَلَى خَمْسِ لَيَالٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ، وَقَالَ الْبَكْرِيُّ: هِيَ أَقَاصِي هَجَرَ، وَحَكَى الْهَمْدَانِيُّ فِي أَنْسَابِ الْيَمَنِ: هُوَ فِي أَقْصَى الْيَمَنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ الْمَحَامِلِيِّ وَفِيهِ زُهَاءُ أَلْفٍ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ حَدِيثًا فِيهِ: فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَوْ دَعَوْتَنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ قَالَهَا بِالْكَسْرِ، فَقُلْتُ لِلْمُسْتَمْلِي: هُوَ بِالضَّمِّ، فَذَكَرَ لَهُ ذَاكَ، فَقَالَ لِي: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَأَلْتُ ابْنَ دُرَيْدٍ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ بُقْعَةٌ فِي جَهَنَّمَ. فَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ: وَكَذَا فِي كِتَابِي عَلَى الْغَيْنِ ضَمَّةٌ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ:
وَإِذَا تَنَكَّرَتِ الْبِلَادُ … فَأَوْلِهَا كَنَفَ الْبِعَادْ
وَاجْعَلْ مَقَامَكَ أَوْ مَقَرَّكَ … جَانِبَيْ بَرْكِ الْغِمَادْ
لَسْتَ ابْنَ أُمِّ الْقَاطِنِينَ … وَلَا ابْنَ عَمٍّ لِلْبِلَادْ
قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَسَأَلْتُ أَبَا عُمَرَ - يَعْنِي غُلَامَ ثَعْلَبٍ - فَقَالَ: هُوَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ، قَالَ: وَمَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ أَوَّلُهُ بِالْكَسْرِ لَكِنْ آخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ عِنْدَ بِئْرِ بَرَهُوتَ الّقَالُ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ تَكُونُ فِيهَا. اهـ