عَلَى الأُولَى" تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّارِيخِ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّارِيخُ تَعْرِيفُ الْوَقْتِ، وَالتَّوْرِيخُ مِثْلُهُ، تَقُولُ: أَرَّخْتُ وَوَرَّخْتُ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْأَرْخِ وَهُوَ الْأُنْثَى مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ، كَأَنَّهُ شَيْءٌ حَدَثَ كَمَا يَحْدُثُ الْوَلَدُ، وَقِيلَ: هُوَ مُعَرَّبٌ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا أُحْدِثَ التَّارِيخُ مِنَ الطُّوفَانِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيجٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِالتَّارِيخِ فَكُتِبَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَهَذَا مُعْضَلٌ، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ. وَأَفَادَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَخَذُوا التَّارِيخَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلَ الْأَيَّامِ مُطْلَقًا، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى شَيْءٍ مُضْمَرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ الزَّمَنِ الَّذِي عَزَّ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَعَبَدَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ آمِنًا، وَابْتَدَأَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، فَوَافَقَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفَهِمْنَا مِنْ فِعْلِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿مِن أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ أَنَّهُ أَوَّلُ أَيَّامِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ، كَذَا قَالَ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ أَيْ: دَخَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ الْمَدِينَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ) أَيِ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ ﷺ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ مِصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَخْطَأَ النَّاسُ الْعَدَدَ، لَمْ يَعُدُّوا مِنْ مَبْعَثِهِ وَلَا مِنْ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، وَإِنَّمَا عَدُّوا مِنْ وَفَاتِهِ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ وَهَمٌ، ثُمَّ سَاقَهُ عَلَى الصَّوَابِ بِلَفْظِ: وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ، إِنَّمَا عَدُّوا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَخْطَأَ النَّاسُ الْعَدَدَ أَيْ: أَغْفَلُوهُ وَتَرَكُوهُ ثُمَّ اسْتَدْرَكُوهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُ مَا عَمِلُوا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَهُ، وَكَانَ يَرَى أَنَّ الْبُدَاءَةَ مِنَ الْمَبْعَثِ أَوِ الْوَفَاةِ أَوْلَى، وَلَهُ اتِّجَاهٌ لَكِنَّ الرَّاجِحَ خِلَافُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مَقْدَمِهِ) أَيْ زَمَنِ قُدُومِهِ، وَلَمْ يُرِدْ شَهْرَ قُدُومِهِ؛ لِأَنَّ التَّارِيخَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ. وَقَدْ أَبْدَى بَعْضُهُمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَةً فَقَالَ: كَانَتِ الْقَضَايَا الَّتِي اتُّفِقَتْ لَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤَرَّخَ بِهَا أَرْبَعَةً: مَوْلِدُهُ، وَمَبْعَثُهُ، وَهِجْرَتُهُ، وَوَفَاتُهُ، فَرَجَحَ عِنْدَهُمْ جَعْلُهَا مِنَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلِدَ وَالْمَبْعَثَ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنَ النِّزَاعِ فِي تَعْيِينِ السَّنَةِ، وَأَمَّا وَقْتُ الْوَفَاةِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنَ الْأَسَفِ عَلَيْهِ، فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا أَخَّرُوهُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ؛ إِذِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ ذِي الْحِجَّةِ وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ أَوَّلُ هِلَالٍ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْبَيْعَةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ مُبْتَدَأً، وَهَذَا أَقْوَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الِابْتِدَاءِ بِالْمُحَرَّمِ.
وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ عَمَلِ عُمَرَ التَّارِيخَ أَشْيَاءَ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ فِي تَارِيخِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا مُوسَى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّهُ يَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَارِيخٌ، فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرِّخْ بِالْمَبْعَثِ، وَبَعْضُهُمْ أَرِّخْ بِالْهِجْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَأَرِّخُوا بِهَا، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. فَلَمَّا اتَّفَقُوا قَالَ بَعْضُهُمْ: ابْدَءُوا بِرَمَضَانَ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ بِالْمُحَرَّمِ فَإِنَّهُ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَرَّخَ التَّارِيخَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ حَيْثُ كَانَ بِالْيَمَنِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَيَعْلَى، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو عَرُوبَةَ فِي الْأَوَائِلِ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: رُفِعَ لِعُمَرَ صَكٌّ مَحَلُّهُ شَعْبَانُ فَقَالَ: أَيُّ شَعْبَانَ ; الْمَاضِي أَوِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، أَوِ الْآتِي؟ ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرَ نَحْوَ الْأَوَّلِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: جَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يَكْتُبُ التَّارِيخَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute