عَلَيْهِ أَنَّهُ ﷺ خَرَجَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ مُنْصَرَفِهِ ﷺ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ فَالْمُرَادُ بِها فَتْحُ خَيْبَرَ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُجَمِّعُ بْنُ حَارِثَةَ قَالَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا وَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَاقِفًا عِنْدَ كُرَاعِ والْعمِيمِ وَقَدْ جَمَعَ النَّاسَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ الْآيَةَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: أَيْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ. ثُمَّ قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ قَالَ: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَغَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَتَبَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأُطْعِمُوا نَخِيلَ خَيْبَرَ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾، فَالْمُرَادُ الْحُدَيْبِيَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ وَقَوْلُهُ ﷺ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَالْمُرَادُ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ، فَبِهَذَا يَرْتَقِعُ الْإِشْكَالُ وَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَكَانَ الْمَعْرُوفَ بِالْحُدَيْبِيَةِ سُمِّيَ بِبِئْرٍ كَانَتْ هُنَالِكَ، هَذَا اسْمُهَا ثُمَّ عُرِفَ الْمَكَانُ كُلُّهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي أَوَاخِرِ الشُّرُوطِ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَحْنَاهَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ فَنَزَفْنَاهَا بِالْفَاءِ بَدَلَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ: وَالنَّزْفُ وَالنَّزْحُ وَاحِدٌ وَهُوَ أَخْذُ الْمَاءِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً) فِي رِوَايَةٍ فَوَجَدْنَا النَّاسَ قَدْ نَزَحُوهَا.
قَوْلُهُ: (فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ) فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ ثُمَّ قَالَ: ائْتُونِي بِدَلْوٍ مِنْ مَائِهَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَضْمَضَ وَدَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بِعِيدٍ) فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فَبَصَقَ فَدَعَا ثُمَّ قَالَ: دَعُوهَا سَاعَةً.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ إِنَّهَا أَصَدَرَتْنَا) أَيْ رَجَعَتْنَا، يَعْنِي أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْهَا وَقَدْ رَوُوا، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فَأَرْوَوْا أَنْفُسَهُمْ وَرِكَابَهُمْ وَالرِّكَابُ الْإِبِلُ الَّتِي يُسَارُ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (ابْنُ فُضَيْلٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ، وَحُصَيْنٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَالْكُلُّ كُوفِيُّونَ كَمَا أَنَّ الْإِسْنَادَ الَّذِي بَعْدَهُ إِلَى قَتَادَةَ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) هَذَا مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ صَبَّ مَاءَ وُضُوئِهِ فِي الْبِئْرِ فَكَثُرَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ، وَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ الْبَيَانُ بِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي نَبْعِ الْمَاءِ كَانَ حِينَ حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْوُضُوءِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ كَانَ لِإِرَادَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ لَمَّا تَفَجَّرَ مِنْ أَصَابِعِهِ وَيَدُهُ فِي الرَّكْوَةِ وَتَوَضَّئُوا كُلُّهُمْ وَشَرِبُوا أَمَرَ حِينَئِذٍ بِصَبِّ الْمَاءِ الَّذِي بَقِيَ فِي الرَّكْوَةِ فِي الْبِئْرِ فَتَكَاثَرَ الْمَاءُ فِيهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ عَنْهُ وَفِيهِ: فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَاءٌ غَيْرُهُ، فَصَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي قَدَحٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَ الْقَدَحَ، قَالَ: فَتَزَاحَمَ النَّاسُ عَلَى الْقَدَحِ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ. فَوَضَعَ كَفَّهُ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ قَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ.
قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْعُيُونَ عُيُونَ الْمَاءِ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ تَكَثِيرَ الْمَاءِ كَانَ بِصَبِّ النَّبِيِّ ﷺ وُضُوءَهُ فِي الْبِئْرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فِي دَلَائِلِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ بِسَهْمٍ فَوُضِعَ فِي قَعْرِ الْبِئْرِ فَجَاشَتْ بِالْمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ فِي آخِرِ الشُّرُوطِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ نَبْعِ الْمَاءِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ نَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَقَعَ مِرَارًا فِي الْحَضَرِ وَفِي السَّفَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.