مِنْ قُرَيْشٍ غَدْرٌ فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ فَفَزِعُوا، فَلَقِيَهُ مُكَرِّزٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى شَرْطِهِ وَأَنْ لَا يَدْخُلَ مَكَّةَ بِسِلَاحٍ إِلَّا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ فِي تِلْكَ الْهَيْئَةِ احْتِيَاطًا فَوَثِقَ بِذَلِكَ، وَأَخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ السِّلَاحَ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ حَتَّى رَجَعَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْغَزْوَةِ وُقُوعُ الْمُقَاتَلَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ فِي الْمَغَازِي لِكَوْنِهَا كَانَتْ مُسَبَّبَةً عَنْ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، انْتَهَى.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُقَاضَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ بَيْنَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَالْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ الْفَصْلُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهَا: عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: قَاضَى فُلَانًا عَاهَدَهُ، وَقَاضَاهُ عَاوَضَهُ، فَيُحْتَمَلُ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ؛ قَالَهُ عِيَاضٌ. وَيُرَجِّع الثَّانِيَ تَسْمِيَتُهَا قِصَاصًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: تَسْمِيَتُهَا عُمْرَةُ الْقِصَاصِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهَا. قُلْتُ: كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي مَغَازِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ، وَوَصَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ الْوَاقِدِيُّ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: سُمِّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ قَاضَى فِيهَا قُرَيْشًا، لَا لِأَنَّهَا قَضَاءٌ عَنِ الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فَسَدَتْ حَتَّى يَجِبَ قَضَاؤُهَا بَلْ كَانَتْ عُمْرَةً تَامَّةً، وَلِهَذَا عَدُّوا عُمَرَ النَّبِيِّ ﷺ أَرْبَعًا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ قَضَاءً عَنِ الْعُمْرَةِ الْأُولَى، وَعُدَّتْ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعُمَرِ لِثُبُوتِ الْأَجْرِ فيها لَا لِأَنَّهَا كَمُلَتْ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنِ اعْتَمَرَ فَصُدَّ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَكْسُهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيٌ وَلَا قَضَاءٌ، وَأُخْرَى يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَالْقَضَاءُ، فَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُمَرَةَ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَإِذَا أُحْصِرَ جَازَ لَهُ تَأْخِيرُهَا، فَإِذَا زَالَ الْحَصْرُ أَتَى بِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّحَلُّلِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ سُقُوطُ الْقَضَاءِ. وَحُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَهَا مَا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ نَحَرُوا الْهَدْيَ حَيْثُ صُدُّوا وَاعْتَمَرُوا مِنْ قَابِلٍ وَسَاقُوا الْهَدْيَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَاضِرٍ قَالَ: اعْتَمَرْتُ فَأُحْصِرْتُ فَنَحَرْتُ الْهَدْيَ وَتَحَلَّلْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْذُلِ الْهَدْيَ فَإِنَّ النبي ﷺ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ.
وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا أَنَّ تَحَلُّلَهُمْ بِالْحَصْرِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نَحْرِ الْهَدْيِ بَلْ أَمَرَ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَنْحَرَهُ، وَمَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحْلِقَ. وَاسْتَدَلَّ الْكُلُّ بِظَاهِرِ أَحَادِيثِ مَنْ أَوْجَبَهَا، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِثْلَ الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ مَكَانَ عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدُّوهُ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ جَمِيعًا فِي مَغَازِيهِمْ أَنَّهُ ﷺ خَرَجَ إِلَى عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَفِي مَغَازِي سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: لَمَّا رَجَعَ مِنَ خَيْبَرَ بَثَّ سَرَايَاهُ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى اسْتَهَلَّ ذُو الْقَعْدَةِ فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ تَجَهَّزُوا إِلَى الْعُمْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: خَرَجَ مَعَهُ مِنْ كَانَ صُدَّ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ إِلَّا مَنْ مَاتَ أَوِ اسْتُشْهِدَ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ: تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهُ ﷺ لَمَّا هَلَّ ذُو الْقَعْدَةِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا قَضَاءَ عُمْرَتِهِمْ وَأَنْ لَا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَخَرَجُوا إِلَّا مَنِ اسْتُشْهِدَ، وَخَرَجَ مَعَهُ آخَرُونَ مُعْتَمِرِينَ فَكَانَتْ عُدَّتُهُمْ أَلْفَيْنِ سِوَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيانِ، قَالَ: وَتُسَمَّى أَيْضًا عُمْرَةُ الصُّلْحِ. قُلْتُ: فَتَحَصَّلَ مِنْ أَسْمَائِهَا أَرْبَعَةٌ: الْقَضَاءُ، وَالْقَضِيَّةُ، وَالْقِصَاصُ، وَالصُّلْحُ.
قَوْلُهُ: (ذَكَرَهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كُنْتُ ذَكَرْتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute