حَتَّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ.
وَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أُمَّ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَتْ مِنْ بَلِيٍّ فَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ عَمْرًا يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَسْتَأْلِفُهُمْ بِذَلِكَ، وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَمَرَهُمْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ أَنْ لَا يُوقِدُوا نَارًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: دَعْهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَبْعَثْهُ عَلَيْنَا إِلَّا لِعِلْمِهِ بِالْحَرْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُ. فَهَذَا السَّبَبُ أَصَحُّ إِسْنَادًا مِنَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ الْجَمْعَ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُ فِي ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا فَمَنَعَهُمْ، فَكَلَّمُوا أَبَا بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُوقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَارًا إِلَّا قَذَفْتُهُ فِيهَا. قَالَ: فَلَقَوُا الْعَدُوَّ فَهَزَمَهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فَمَنَعَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُمْ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا فَيَرَى عَدُوُّهُمْ قِلَّتَهُمْ، وَكَرِهْتُ أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فَيَكُونَ لَهُ مَدَدٌ. فَحَمِدَ أَمْرَهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ الْحَدِيثَ.
فَاشْتَمَلَ هَذَا السِّيَاقُ عَلَى فَوَائِدَ زَوَائِدَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَسَلَّمَ لَهُ أَمْرَهُ، وَأَلَحُّوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَسْأَلَهُ فَسَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ شَاهِينَ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَشَيْخُهُ خَالِدٌ هُوَ ابْنُ مِهْرَانَ الْحَذَّاءُ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ) هَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ، بَلْ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ مَوْصُولٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَإِنَّ الْمُرَادَ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَأَبُو عُثْمَانَ سَمِعَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، وَمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَمْرٍو: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَتَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُهُ) فِي رِوَايَةِ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ قَدِمْتُ مِنْ جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ عَمْرٌو: فَحَدَّثَتْ نَفْسِي أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْنِي عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ إِلَّا لِمَنْزِلَةٍ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (فَعَدَّ رِجَالًا) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا أَسْأَلُ عَنْ هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَأْمِيرِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ إِذَا امْتَازَ الْمَفْضُولُ بِصِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ، وَمَزِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الرِّجَالِ وَبِنْتِهِ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ، وَمَنْقَبَةٌ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِتَأْمِيرِهِ عَلَى جَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَفْضَلِيَّتَهُ عَلَيْهِمْ لَكِنْ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ فَضْلًا فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ مِنْ حَدِيثِ رَافِعٍ الطَّائِيِّ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ جَيْشًا وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَهِيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي يَفْتَخِرُ بِهَا أَهْلُ الشَّامِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنِي أَنْ آخُذَ ثِيَابِي وَسِلَاحِي فَقَالَ: يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدَ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ وَيُسَلِّمَكَ، قُلْتُ: إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ. قَالَ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ، وَهَذَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ بَعْثَهُ عَقِبَ إِسْلَامِهِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي أَثْنَاءِ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: (فَسَكَتُّ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَضْمُومَةِ، هُوَ مَقُولُ عَمْرٍو
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute