فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً. قَالَ: لَا، قُلْتُ: نِصْفُهُ. قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَثُلُثُهُ. قَالَ: نَعَمْ وَلِابْنِ مَرْدَوْيهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَجْزِي عَنْكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ، وَنَحْوُهُ لِأَحْمَدَ فِي قِصَّةِ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ) أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَفِي قَوْلِهِ: أَحْسَنَ وَأَعْظَمَ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ يُورَدُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْأَفْضَلِيَّةِ لَا الْمُسَاوَاةُ؛ لِأَنَّ كَعْبًا شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ رَفِيقَانِ، وَقَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ حَصَلَ لَهُ أَحْسَنُ مِمَّا حَصَلَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ) لَا زَائِدَةٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ.
قَوْلُهُ: (وَكُنَّا تُخُلِّفْنَا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: خُلِّفْنَا بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: (وَأَرْجَأَ) مَهْمُوزًا أَيْ أَخَّرَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَحَاصِلُهُ أَنَّ كَعْبًا فَسَّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ أَيْ: أُخِّرُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ خُلِّفُوا عَنِ الْغَزْوِ، وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ قَالَ: خُلِّفُوا عَنِ التَّوْبَةِ، وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوُهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَمَعْنَى الْكَلَامِ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ أُخِّرَتْ تَوْبَتُهُمْ. وَفِي قِصَّةِ كَعْبٍ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، جَوَازُ طَلَبِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ ذَوِي الْحَرْبِ، وَجَوَازُ الْغَزْوِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالتَّصْرِيحُ بِجِهَةِ الْغَزْوِ إِذَا لَمْ تَقْتَضِ الْمَصْلَحَةُ سَتْرَهُ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا اسْتَنْفَرَ الْجَيْشَ عُمُومًا لَزِمَهُمُ النَّفِيرُ وَلَحِقَ اللَّوْمُ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ أَنْ لَوْ تَخَلَّفَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: إِنَّمَا اشْتَدَّ الْغَضَبُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكِنَّهُ فِي حَقِّ الْأَنْصَارِ خَاصَّةً فَرْضُ عَيْنٍ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا … عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
فَكَانَ تَخَلُّفُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّهَا كَالنَّكْثِ لِبَيْعَتِهِمْ، كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا غَيْرَ الَّذِي قَالَ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ وَجْهًا غَيْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ وَلَعَلَّهُ أَقْعَدُ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ: أَنَّ الْجِهَادَ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَعَلَى هَذَا فَيَتَوَجَّهُ الْعِتَابُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ مُطْلَقًا. وَفِيهَا: أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَاسْتِخْلَافُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْإِمَامِ عَلَى أَهْلِهِ وَالضَّعَفَةِ، وَفِيهَا تَرْكُ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ تَرْكُ قَتْلِ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ. وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّ التَّرْكَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَفِيهَا عِظَمُ أَمْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكَلَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مَالًا حَرَامًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا حَرَامًا وَلَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، أَصَابَهُمْ مَا سَمِعْتُمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُوَاقِعُ الْفَوَاحِشَ وَالْكَبَائِرَ؟ وَفِيهَا أَنَّ الْقَوِيَّ فِي الدِّينِ يُؤَاخَذُ بِأَشَدِّ مِمَّا يُؤَاخَذُ الضَّعِيفُ فِي الدِّينِ، وَجَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرْءِ عَنْ تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ وَعَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ تَحْذِيرًا وَنَصِيحَةً لِغَيْرِهِ، وَجَوَازُ مَدْحِ الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ إِذَا أُمِنَ الْفِتْنَةَ وَتَسْلِيَةُ نَفْسَهُ بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِمَا وَقَعَ لِنَظِيرِهِ، وَفَضْلُ أَهْلِ بَدْرٍ وَالْعَقَبَةِ، وَالْحَلِفُ لِلتَّأْكِيدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ، وَالتَّوْرِيَةُ عَنِ الْمَقْصِدِ، وَرَدُّ الْغَيْبَةِ، وَجَوَازُ تَرْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ مُدَّةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute