وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَابْنُ السَّمْعَانِيّ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَالْمُخْتَارُ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَرَى الْمُتَأَخِّرُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ مَا اتَّضَحَ مَعْنَاهُ، وَالْمُتَشَابِهُ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَقْبَلُ مَعْنًى إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ غَيْرَهُ أَوْ لَا، الثَّانِي النَّصُّ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى رَاجِحَةً أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيهِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُجْمَلُ، وَالثَّانِي الْمُؤوَّلُ. فَالْمُشْتَرَكُ هُوَ النَّصُّ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُؤوَّلِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّقْسِيمَ أَنَّهُ ﷾ أَوْقَعَ الْمُحْكَمَ مُقَابِلًا لِلْمُتَشَابِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُحْكَمُ بِمَا يُقَابِلَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أُسْلُوبُ الْآيَةِ وَهُوَ الْجَمْعُ مَعَ التَّقْسِيمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ مَا جَمَعَ فِي مَعْنَى الْكِتَابِ بِأَنْ قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ أَرَادَ أَنْ يُضِيفَ إِلَى كُلِّ مِنْهُمَا مَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنَ الْحُكْمِ فَقَالَ أَوَّلًا: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ - إِلَى أَنْ قَالَ - ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمُ اسْتِقَامَةٌ فَيَتَّبِعُونَ الْمُحْكَمَ، لَكِنَّهُ وَضَعَ مَوْضِعَ ذَلِكَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لِإِتْيَانِ لَفْظِ الرُّسُوخِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ وَالِاجْتِهَادِ الْبَلِيغِ، فَإِذَا اسْتَقَامَ الْقَلْبُ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَرَسَخَ الْقَدَمُ فِي الْعِلْمِ أَفْصَحَ صَاحِبُهُ النُّطْقَ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ، وَكَفَى بِدُعَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ إِلَخْ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: (إِلَّا اللَّهُ) تَامٌّ، وَإِلَى أَنَّ عِلْمَ بَعْضِ الْمُتَشَابِهِ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ حَاوَلَ مَعْرِفَتَهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: فَاحْذَرُوهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْعَقْلُ مُبْتَلًى بِاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْمُتَشَابِهِ كَابْتِلَاءِ الْبَدَنِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ، كَالْحَكِيمِ إِذَا صَنَّفَ كِتَابًا أَجْمَلَ فِيهِ أَحْيَانَا لِيَكُونَ مَوْضِعَ خُضُوعِ الْمُتَعَلِّمِ لِأُسْتَاذِهِ، وَكَالْمَلِكِ يَتَّخِذُ عَلَامَةً يَمْتَازُ بِهَا مَنْ
يُطْلِعُهُ عَلَى سِرٍّ وَقِيلَ: لَوْ لَمْ يَقْبَلِ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْبَدَنِ لَاسْتَمَرَّ الْعَالِمُ فِي أُبَّهَةِ الْعِلْمِ عَلَى التَّمَرُّدِ، فَبِذَلِكَ يَسْتَأْنِسُ إِلَى التَّذَلُّلِ بِعِزِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَوْضِعُ خُضُوعِ الْعُقُولِ لِبَارِيهَا اسْتِسْلَامًا وَاعْتِرَافًا بِقُصُورِهَا، وَفِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ تَعْرِيضٌ بِالزَّائِغِينَ وَمَدْحٌ لِلرَّاسِخَيْنِ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَيَتَّعِظْ وَيُخَالِفْ هَوَاهُ فَلَيْسَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاسِخُونَ: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَخَضَعُوا لِبَارِيهِمْ لِاشْتِرَاكِ الْعِلْمِ اللَّدُنِّي بَعْدَ أَنِ اسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الزَّيْغِ النَّفْسَانِيِّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وَلَا قَوْلُهُ: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، وَعَكَسَ آخَرُونَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْكَامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ الْإِتْقَانُ فِي النَّظْمِ وَأَنَّ كُلَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَشَابِهِ كَوْنُهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي حُسْنِ السِّيَاقِ وَالنَّظْمِ أَيْضًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اشْتِبَاهَ مَعْنَاهُ عَلَى سَامِعِهِ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُحْكَمَ وَرَدَ بِإِزَاءِ مَعْنَيَيْنِ، وَالْمُتَشَابِهَ وَرَدَ بِإِزَاءِ مَعْنَيَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَهُمُ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَاحْذَرْهُمْ بِالْإِفْرَادِ وَالْأُولَى أَوْلَى، وَالْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنَ الْإِصْغَارِ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي تَأْوِيلِهِمُ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ، وَأَنَّ عَدَدَهَا بِالْجُمَّلِ مِقْدَارُ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْخَوَارِجِ حَتَّى جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِمُ الْآيَةَ، وَقِصَّةُ عُمَرَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَى ضُبَيْعٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَدْمَاهُ، أَخْرَجَهَا الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُتَشَابِهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا إِذَا رُدَّ إِلَى الْمُحْكَمِ وَاعْتُبِرَ بِهِ عُرِفَ مَعْنَاهُ، وَالْآخَرُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُهُ أَهْلُ الزَّيْغِ فَيَطْلُبُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute