وَفِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: فَقَالَ: هُوَ نَبِيٌّ وَوَقَعَ فِي أَمَالِي الْمَحَامِلِيِّ رِوَايَةَ الْأَصْبَهَانِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ: أَنَّ صَاحِبَ بُصْرَى أَخَذَهُ وَنَاسًا مَعَهُ، وَهُمْ فِي تِجَارَةٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً دُونَ الْكِتَابِ وَمَا فِيهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهَا: قَالَ: فَأَخْبرنِي هَلْ تَعْرِفُ صُورَتَهُ إِذَا رَأَيْتَهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأُدْخِلْتُ كَنِيسَةً لَهُمْ فِيهَا الصُّوَرُ فَلَمْ أَرَهُ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ أُخْرَى فَإِذَا أَنَا بِصُورَةِ مُحَمَّدٍ وَصُورَةِ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا أَنَّهُ دُونَهُ. وَفِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: إِنَّ هِرَقْلَ أَخْرَجَ لَهُمْ سَفَطًا مِنْ ذَهَبٍ عَلَيْهِ قُفْلٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ حَرِيرَةً مَطْوِيَّةً فِيهَا صُوَرٌ فَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرُهَا صُورَةَ مُحَمَّدٍ، فَقُلْنَا بِأَجْمَعِنَا: هَذِهِ صُورَةُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهَا صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ خَاتَمُهُمْ ﷺ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ) أَيْ: أَعْلَمُ أَنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ تَعْيِينَ جِنْسِهِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَ هِرَقْلَ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَهِيَ طَافِحَةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ أَيْ: مِنْ قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: لَتَجَشَّمْتُ بِجِيمٍ وَمُعْجَمَةٍ أَيْ تَكَلَّفْتُ، وَرَجَّحَهَا عِيَاضٌ، لَكِنْ نَسَبَهَا لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ خَاصَّةً، وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ أَيْ: تَكَلَّفْتُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ، وَارْتَكَبْتُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ أُقْتَطَعَ دُونَهُ. قَالَ: وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ صِفَةَ النَّبِيِّ، لَكِنَّهُ شَحَّ بِمُلْكِهِ وَرَغِبَ فِي بَقَاءِ رِيَاسَتِهِ فَآثَرَهَا. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: كَذَا قَالَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّوَوِيَّ عَنَى مَا وَقَعَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ دُونَ مُسْلِمٍ مِنَ الْقِصَّةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ النَّاطُورِ، وَأَنَّ فِي آخِرِهَا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا، أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ وَزَادَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ: فَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِي أَحْبَبْتُ فَكَأَنَّ النَّوَوِيَّ أَشَارَ إِلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: شَحَّ بِمُلْكِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَرَأَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ هِرَقْلَ هُوَ الَّذِي قَرَأَ الْكِتَابَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التُّرْجُمَانُ قَرَأَهُ، وَنُسِبَتْ قِرَاءَتُهُ إِلَى هِرَقْلَ مَجَازًا؛ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ بِلَفْظِ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُرِئَ وَفِي مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَدَعَا التُّرْجُمَانَ الَّذِي يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَهُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجِهَادِ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ؛ فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: الْتَمِسُوا لِي هَهُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ؛ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُرِئَ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هِرَقْلَ قَرَأَهُ بِنَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا جَمَعَ قَوْمَهُ وَأَحْضَرَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ وَسَأَلَهُ وَأَجَابَهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا: فَقَالَ حِينَ قَرَأَهُ أَيْ: قَرَأَ عُنْوَانَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ كِتَابَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ مَخْتُومًا بِخَتْمِهِ، وَخَتْمُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْئِلَةِ قَوْلَ هِرَقْلَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَقُولُ: اعْبُدُوا
اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَهَذَا بِعَيْنِهِ فِي الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَ هِرَقْلُ قَرَأَهُ أَوَّلًا مَا احْتَاجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ ثَانَيًا، نَعَمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ عَنْهُ ثَانِيًا مُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَوَائِدُ، مِنْهَا جَوَازُ مُكَاتَبَةِ الْكُفَّارِ وَدُعَاؤُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَفِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute