بِالْفَلَّاحِينَ الزَّراعِينَ فَقَطْ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ، إِنْ أَرَادَ بِهِ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَ النَّوَوِيِّ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُعْتَرَضٌ.
وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا أَنّ الْأَرِيسِيِّينَ هُمُ الْخَوَلُ وَالْخَدَمُ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْخَوَلِ مَا هُوَ أَعَمُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَحْكُمُ الْمَلِكُ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَيْضًا أَنَّ الْأَرِيسِيِّينَ قَوْمٌ مِنَ الْمَجُوسِ كَانُوا يَعْبُدُونَ النَّارَ، وَيُحَرِّمُونَ الزِّنَا، وَصِنَاعَتُهُمُ الْحِرَاثَةُ، وَيُخْرِجُونَ الْعُشْرَ مِمَّا يَزْرَعُونَ، لَكِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَوْقُوذَةَ. وَهَذَا أَثْبَتُ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّ عَلَيْكَ مِثْلَ إِثْمِ الْأَرِيسِيِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغَ) أَيِ: الْقَارِئُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ هِرَقْلَ، وَنَسَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ مَجَازًا؛ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: عِنْدَهُ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ لِهِرَقْلَ جَزْمًا.
قَوْلُهُ: (ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ) وَوَقَعَ فِي الْجِهَادِ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ، فَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا: لَكِنْ يُعْرَفُ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ أَنَّ اللَّغَطَ كَانَ لِمَا فَهِمُوهُ مِنْ هِرَقْلَ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى التَّصْدِيقِ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَأَنَّ أَمِرَ الْأَوَّلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَالثَّانِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ كُرَاعٌ فِي الْمُجَرَّدِ وَرِعَ أَمِرَ بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ، أَيْ كَثِيرٌ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْمَعْنَى لَقَدْ كَثُرَ كَثِيرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، وَفِيهِ قَلَقٌ، وَفِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الثَّانِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَمَرَةٌ - عَلَى وَزْنِ بَرَكَةٍ - الزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ: لَقَدْ أَمِرَ أَمَرُ مُحَمَّدٍ انْتَهَى. هَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِرَاجُ الدِّينِ فِي شَرْحِهِ وَرَدَّهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ تَفْسِيرَ اللَّفْظَةِ الْأُولَى، وَهِيَ أَمِرَ بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ وَأَنَّ مَصْدَرَهَا أَمَرٌ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْأَمَرُ بِفَتْحَتَيْنِ الْكَثْرَةُ وَالْعِظَمُ وَالزِّيَادَةُ، وَلَمْ يُرِدْ ضَبْطَ اللَّفْظَةِ الثَّانِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَدَعَا هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ فَجَمَعَهُمْ إِلَخْ) هَذِهِ قِطْعَةٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ عَقِبَ الْقِصَّةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ النَّاطُورِ، وَقَدْ بَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَاهُمْ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنَّ رَجَعَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَاتَبَ صَاحِبَهُ الَّذِي بِرُومِيَّةَ فَجَاءَهُ جَوَابُهُ يُوَافِقُهُ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَعَلَى هَذَا فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَدَعَا فَصَيْحَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ بِرُومِيَّةَ فَجَاءَهُ جَوَابُهُ فَدَعَا الرُّومَ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بَعْضُ الْقِصَّةِ الَّتِي حَكَاهَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ النَّاطُورِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ حَكَى قِصَّةَ الْكِتَابِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسْقُفٌّ مِنَ النَّصَارَى قَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ ابْنُ النَّاطُورِ، وَقِصَّةُ الْكِتَابِ إِنَّمَا ذَكَرَهَا الزُّهْرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ فَصَّلَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْحَدِيثَ تَفْصِيلًا وَاضِحًا، وَهُوَ أَوْثَقُ مِنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَأَتْقَنُ، فَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمَحْفُوظَةُ وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ شَاذَّةٌ، وَمَحَلُّ هَذَا التَّنْبِيهِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، لَكِنْ فَاتَ ذِكْرُهُ هُنَاكَ فَاسْتَدْرَكْتُهُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ فَقَالَ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّهُ جَمَعَهُمْ فِي مَكَانٍ، وَكَانَ هُوَ فِي أَعْلَاهُ، فَاطَّلَعَ، وَصَنَعَ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُنْكِرُوا مَقَالَتَهُ، فَيُبَادِرُوا إِلَى قَتْلِهِ.
قَوْلُهُ: (آخِرَ الْأَبَدِ) أَيْ: يَدُومُ مُلْكُكُمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مِنَ الْكُتُبِ أَنْ لَا أُمَّةَ بَعْدَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا دِينَ بَعْدَ دِينِهَا، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِيهِ آمَنَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمْ، فَدَعَا بِهِمْ فَقَالَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَرَدُّوهُمْ، فَقَالَ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمُ الَّذِي أَحْبَبْتُ) يُفَسِّرُهَا مَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مُقْتَصِرًا عَلَى قَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُ وَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَمَّا بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمُ السُّجُودُ لِمُلُوكِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى تَقْبِيلِهِمُ الْأَرْضَ حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ الَّذِي