وَمُرَادُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى حَيْثُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (فَتَحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) أَيْ مِنَ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ.
قَوْلُهُ: (كَتَبَ) أَيْ قَدَّرَ.
قَوْلُهُ: (مُحِلِّينَ) أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُبِيحُونَ الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ وَحَصَرُوهُ وَإِنَّمَا بَدَأَ مِنْهُ أَوَّلًا دَفْعُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ رَدَّهُمُ اللَّهُ عَنْهُ حَصَرَ بَنِي هَاشِمٍ لِيُبَايِعُوهُ، فَشَرَعَ فِيمَا يُؤْذِنُ بِإِبَاحَتِهِ الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ، وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي ابْنَ الزُّبَيْرِ الْمُحِلُّ لِذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ يَتَغَزَّلُ فِي أُخْتِهِ رَمْلَةَ:
أَلَا مَنْ لِقَلْبِ مَعْنَى غَزَلٍ … بِحُبِّ الْمُحِلَّةِ أُخْتِ الْمُحِلّ
وَقَوْلُهُ لَا أُحِلُّهُ أَبَدًا أَيْ لَا أُبِيحُ الْقِتَالَ فِيهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ فِي الْحَرَمِ وَلَوْ قُوتِلَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَ النَّاسُ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَاقِلُ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَوْلُهُ بَايِعْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ وَأَيْنَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَيِ الْخِلَافَةِ، أَيْ لَيْسَتْ بَعِيدَةً عَنْهُ لِمَا لَهُ مِنَ الشَّرَفِ بِأَسْلَافِهِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ ثُمَّ صِفَتِهِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَفِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قُتَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ عَوَانَةَ وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ بَايِعْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَيْنَ الْمَذْهَبُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ) أَيْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ رَبُّونِي) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ مِنَ التَّرْبِيَةِ.
قَوْلُهُ: (رَبُّونِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ رَبَّنِي بِالْإِفْرَادِ، وَقَوْلُهُ أَكْفَاءٌ أَيْ أَمْثَالٌ وَاحِدُهَا كُفْءٌ، وَقَوْلُهُ كِرَامٌ أَيْ فِي أَحْسَابِهِمْ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْمَذْكُورِينَ بَنُو أَسَدٍ رَهْطُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَلَامُ أَبِي مِخْنَفٍ الْإخْبَارِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِالطَّائِفِ جَمَعَ بَنِيهِ فَقَالَ يَا بَنِيَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا خَرَجَ بِمَكَّةَ شَدَدْتُ أَزْرَهُ وَدَعَوْتُ النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ وَتَرَكْتُ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الَّذِينَ إِنْ قَبِلُونَا قَبِلُونَا أَكْفَاءً، وَإِنْ رَبُّونَا رَبُّونَا كِرَامًا. فَلَمَّا أَصَابَ مَا أَصَابَ جَفَانِي وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي آخِرِ الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ حَيْثُ قَالَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَأَنْ يُرَبنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُرَبنِي غَيْرُهُمْ فَإِنَّ بَنِي عَمّه هُمْ بَنُو أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدٍ مناف لِأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ المطلب بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَعَبْدُ المطلب جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب ابْنِ عَمِّ أُمَيَّةَ جَدِّ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ هَاشِمٌ، وَعَبْدُ شَمْسٍ شَقِيقَيْنِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَبْدُ شَمْسٍ كَانَ يَتْلُو هَاشِمًا … وَهُمَا بَعْدُ لِأُمٍّ وَلِأَبٍ
وأصرح مِنْ ذَلِكَ مَا فِي خَبَرِ أَبِي مِخْنَفٍ فَإِنَّ فِي آخِرِهِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِبَنِيهِ: فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَالْحَقُوا بِبَنِي عَمِّكُمْ بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ رَأَيْتُ بَيَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ وَتَرَكْتُ بَنِي عَمِّي إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي عَنْ قَرِيبٍ أَيْ أَذْعَنْتُ لَهُ وَتَرَكْتُ بَنِي عَمِّي فَآثَرَ عَلَي غَيْرِي، وَبِهَذَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ قُتَيْبَةَ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِابْنِهِ عَلِيٍّ الْحَقْ بِابْنِ عَمِّكِ، فَإِنَّ أَنْفَكَ مِنْكَ وَإِنْ كَانَ أَجْدَعٌ، فَلَحِقَ عَلِيٌّ بِعَبْدِ الْمَلِكِ فَكَانَ آثَرَ النَّاسِ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَآثَرَ عَلِيًّ) بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْأَثَرَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَيْنَ بِتَحْتَانِيَّةِ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ وَهُوَ