عشر موضعا ولم يقطع صلاته، قلت: ورويناها عن محمد بن أبي حاتم وراقه، وقال في آخرها: كنت في آية، فأحببت أن أتمها، وقال وراقه أيضا: كنا بفربر، وكان أبو عبد الله يبني رباطا مما يلي بخارى، فاجتمع بشر كثير يعينونه على ذلك، وكان ينقل اللبن، فكنت أقول له: يا أبا عبد الله، إنك تكفي ذلك، فيقول: هذا الذي ينفعني، قال: وكان ذبح لهم بقرة، فلما أدركت القدور دعا الناس إلى الطعام، فكان معه مائة نفس أو أكثر، ولم يكن علم أنه يجتمع ما اجتمع، وكنا أخرجنا معه من فربر خبزا بثلاثة دراهم، وكان الخبز إذ ذاك خمسة أمنان بدرهم، فألقيناه بين أيديهم، فأكل جميع من حضر، وفضلت أرغفة صالحة، وقال: وكان قليل الأكل جدا كثير الإحسان إلى الطلبة، مفرط الكرم، وحكى أبو الحسن يوسف بن أبي ذر البخاري أن محمد بن إسماعيل مرض فعرضوا ماءه على الأطباء، فقالوا: إن هذا الماء يشبه ماء بعض
أساقفة النصارى، فإنهم لا يأتدمون، فصدقهم محمد بن إسماعيل، وقال: لم آتدم منذ أربعين سنة، فسألوا عن علاجه، فقالوا: علاجه الآدم، فامتنع حتى ألح عليه المشايخ، وأهل العلم، فأجابهم إلى أن يأكل مع الخبز سكرة.
وقال الحاكم أبو عبد الله الحافظ: أخبرني محمد بن خالد، حدثنا مقسم بن سعد، قال: كان محمد بن إسماعيل البخاري إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه، فيصلي بهم، ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة.
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ، فكنت أراه يقوم في الليلة الواحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري نارا بيده، ويسرج ويخرج أحاديث فيعلم عليها، ثم يضع رأسه فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني، قال: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك، قال: وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، ويوتر منها بواحدة، قال: وكان معه شيء من شعر النبي ﷺ فجعله في ملبوسه، قال: وسمعته يقول وقد سئل عن خبر حديث يا أبا فلان تراني أدلس، وقد تركت عشرة آلاف حديث لرجل فيه نظر، وتركت مثلها أو أكثر منها لغيره لي فيه نظر.
وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي السليماني: سمعت علي بن محمد بن منصور يقول: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري، فرفع إنسان من لحيته قذاة وطرحها إلى الأرض، قال: فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس رأيته مد يده، فرفع القذاة من الأرض، فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته.
وأخرج الحاكم في تاريخه من شعره قوله:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع … فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت من غير سقم … ذهبت نفسه الصحيحة فلته
قلت: وكان من العجائب أنه هو وقع له ذلك أو قريبا منه كما سيأتي في ذكر وفاته، ولما نعي إليه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ أنشد:
إن عشت تفجع بالأحبة كلهم … وبقاء نفسك لا أبا لك أفجع