﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ أَيْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، وَذَهَبَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: قَلِيلُونَ، وَالَّذِي أَوْرَدَهُ الْفِرْيَابِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذَا أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ قَالَ: هُمْ يَوْمَئِذٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَطَعَ بِهِمْ مُوسَى الْبَحْرَ كَانُوا سِتَّمِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بَنِي عِشْرِينَ سَنَةٍ فَصَاعِدًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (الرِّيَعُ: الْأَيْفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَمْعُهُ رِيَعَةٌ وَأَرْيَاعٌ، وَاحِدُهُ رَيْعَةٌ) كَذَا فِيهِ، وَرَيْعَةُ الْأَوَّلِ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالثَّانِي بِسُكُونِهَا، وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: رِيعٌ وَاحِدٌ جَمْعُهُ أَرْيَاعٌ، وَرِيَعَةٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَرِيَعٌ أَيْضًا وَاحِدُهُ: رَيْعَةٌ بِالسُّكُونِ كَعِهْنٍ وَعِهْنَةٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ﴾ الرِّيعُ: الِارْتِفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْجَمْعُ: أَرْيَاعٌ وَرِيَعَةٌ، وَالرَّيْعَةُ وَاحِدُه أَرْيَاعٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بِكُلِّ رِيعٍ﴾ أَيْ بِكُلِّ طَرِيقٍ.
قَوْلُهُ: ﴿مَصَانِعَ﴾ كُلُّ بِنَاءٍ فَهُوَ مَصْنَعَةٌ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَادَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَبِضَمِّهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: الْمَصَانِعُ الْقُصُورُ وَالْحُصُونُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْمَصَانِعُ عِنْدَنَا بِلُغَةِ الْيَمَنِ الْقُصُورُ الْعَادِيَّةُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا يُتَّخَذُ فِيهِ الْمَاءُ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَصَانِعُ الْقُصُورُ الْمُشَيَّدَةُ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: الْمَصَانِعُ بُرُوجُ الْحَمَامِ.
قَوْلُهُ: (فَرِهِينَ: مَرِحِينَ) كَذَا لَهُمْ، وَلِأَبِي ذَرٍّ: فَرِحِينَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَصَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ لِقُرْبِ مَخْرَجِ الْحَاءِ مِنَ الْهَاءِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: (بُيُوتًا فَرِهِينَ) أَيْ مَرِحِينَ. وَلَهُ تَفْسِيرٌ آخَرُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْفَرِحِينَ بِالْمَرِحِينَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
قَوْلُهُ: (فَارِهِينَ بِمَعْنَاهُ، وَيُقَالُ: فَارِهِينَ: حَاذِقِينَ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا، وَأَنْشَدَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ:
لَا أَسْتَكِينُ إِذَا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ … وَلَنْ تَرَانِي بِخَيْرٍ فَارِهَ اللِّيثِ
وَاللِّيْثُ بِكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ: الْعُنُقُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْكَلْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: (فَرِهِينَ) قَالَ: مُعْجَبِينَ بِصَنِيعِكُمْ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: آمِنِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: شَرِهِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادَ قَالَ أَحَدُهُمَا: حَاذِقِينَ، وَقَالَ الْآخَرُ: جَبَّارِينَ.
قَوْلُهُ: (تَعْثَوْا: هُوَ أَشَدُّ الْفَسَادُ، وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا) مُرَادُهُ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَرِدْ أَنْ تَعْثَوْا مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَيْثِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ هُوَ مِنْ عَثِيَتْ تَعْثِي، وَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ عَثَتْ تَعِيثُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَلا تَعْثَوْا﴾؛ أَيْ: لَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
قَوْلُهُ: (الْجِبِلَّةَ: الْخَلْقُ، جُبِلَ خُلِقَ، وَمِنْهُ جُبُلًا وَجِبِلًّا وَجُبْلًا يَعْنِي الْخَلْقُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوْلَى؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ أَيِ الْخَلْقُ، هُوَ مِنْ جُبِلَ عَلَى كَذَا أَيْ: تَخَلَّقَ. وَفِي الْقُرْآنِ: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا﴾ مُثَقَّلٌ وَغَيْرُ مُثَقَّلٍ، وَمَعْنَاهُ: الْخَلْقُ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مُثَقَّلٌ وَغَيْرُ مُثَقَّلٍ لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُمَا، وَفِيهِمَا قِرَاءَاتٌ: فَفِي الْمَشْهُورِ بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدُ اللَّامِ لِنَافِعٍ، وَعَاصِمٍ، وَبِضَمَّةٍ ثُمَّ سُكُونٍ لِأَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ عَامِرٍ، وَبِكَسْرَتَيْنِ وَاللَّامُ خَفِيفَةٌ لِلْأَعْمَشِ، وَبِضَمَّتَيْنِ وَاللَّامُ خَفِيفَةٌ لِلْبَاقِينَ، وَفِي الشَّوَاذِّ بِضَمَّتَيْنِ ثُمَّ تَشْدِيدٌ، وَبِكَسْرَةٍ ثُمَّ سُكُونٍ، وَبِكَسْرَةٍ ثُمَّ فَتْحَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ﴾ قَالَ: خَلْقُ الْأَوَّلِينَ،