الْقُرْآنِ: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ أَيْ: يَغْشَاهَا قَتَرَةٌ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْغَبَرَةَ الْغُبَارُ مِنَ التُّرَابِ، وَالْقَتَرَةُ السَّوَادُ الْكَائِنُ عَنِ الْكَآبَةِ.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمُ لَا أَعْصِيكَ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: فَقَالَ لَهُ: قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ هَذَا فَعَصَيْتَنِي، قَالَ: لَكِنِّي لَا أَعْصِيكَ وَاحِدَةً.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ) وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْأَبْعَدِ عَلَى طَرِيقِ الْفَرْضِ إِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ فِي أَبِيهِ، وَقِيلَ: الْأَبْعَدُ صِفَةُ أَبِيهِ، أَيْ أَنَّهُ شَدِيدُ الْبُعْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ بَعِيدٌ مِنْهَا فَالْكَافِرٌ أَبْعَدٌ، وَقِيلَ: الْأَبْعَدُ بِمَعْنَى الْبَعِيدَ وَالْمُرَادُ الْهَالِكُ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: وَإِنْ أَخْزَيْتَ أَبِي فَقَدْ أَخْزَيْتَ الْأَبْعَدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: يَلْقَى رَجُلٌ أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُ: أَيُّ ابْنٍ كُنْتَ لَكَ؟ فَيَقُولُ: خَيْرُ ابْنٍ، فَيَقُولُ: هَلْ أَنْتَ مُطِيعِي الْيَوْمَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ خُذْ بَازَرتِي. فَيَأْخُذُ بَازَرتَهُ. ثُمَّ يَنْطَلِقُ حَتَّى يَأْتِيَ رَبَّهُ وَهُوَ يَعْرِضُ الْخَلْقَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا عَبْدِي ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَبِي مَعِي، فَإِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيُنَادِي: إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمَ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ انْظُرْ، فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَيَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَخَذْتَهُ مِنِّي، قَالَ: انْظُرْ أَسْفَلَ، فَيَنْظُرُ فَإِذَا ذِيخٌ يَتَمَرَّغُ فِي نَتْنِهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: فَيَمْسَخُ اللَّهُ أَبَاهُ ضَبُعًا، فَيَأْخُذُ بِأَنْفِهِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي أَبُوكَ هُوَ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيُحَوَّلُ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ فِي صُورَةِ ضِبْعَانَ، زَادَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَإِذَا رَآهُ كَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ قَالَ: لَسْتَ أَبِي، وَالذِّيخُ بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ ذَكَرُ الضِّبَاعِ، وَقِيلَ: لَا يُقَالُ لَهُ: ذِيخٌ إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ. وَالضِّبْعَانُ لُغَةٌ فِي الضَّبْعِ. وَقَوْلُهُ: مُتَلَطِّخٌ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ فِي رَجِيعٍ أَوْ دَمٍ أَوْ طِينٍ. وَقَدْ عَيَّنَتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْمُرَادَ، وَأَنَّهُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ؛ حَيْثُ قَالَ: فَيَتَمَرَّغُ فِي نَتْنِهِ. قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ لِتَنْفِرَ نَفْسُ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُ، وَلِئَلَّا يَبْقَى فِي النَّارِ عَلَى صُورَتِهِ فَيَكُونُ فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مَسْخِهِ ضَبْعًا أَنَّ الضَّبْعَ مِنْ أَحْمَقِ الْحَيَوَانِ، وَآزَرَ كَانَ مِنْ أَحْمَقِ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى مَاتَ.
وَاقْتَصَرَ فِي مَسْخِهِ عَلَى هَذَا الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ وَسَطٌ فِي التَّشْوِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دُونَهُ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ كَالْأَسَدِ مَثَلًا، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَالَغَ فِي الْخُضُوعِ لَهُ وَخَفْضَ الْجَنَاحَ فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَأَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ فَعُومِلَ بِصِفَةِ الذُّلِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّ لِلضَّبْعِ عِوَجًا فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ آزَرَ لَمْ يَسْتَقِمْ فَيُؤْمِنُ بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى عِوَجِهِ فِي الدِّينِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَصْلِهِ وَطَعَنَ فِي صِحَّتِهِ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: هَذَا خَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ; فَكَيْفَ يَجْعَلُ مَا صَارَ لِأَبِيهِ خِزْيًا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ انْتَهَى. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَبَرَّأَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ، فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَمَّا مَاتَ آزَرَ مُشْرِكًا، وَهَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةِ: فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ قَالَ: اسْتَغْفَرَ لَهُ مَا كَانَ حَيًّا فَلَمَّا مَاتَ أَمْسَكَ، وَأَوْرَدَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقِيلَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute