وَيَأْتِي فِي النِّكَاحِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِهِ: حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَقَدْ أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي الْحَدِيثَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ كُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ فَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ:: أُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِي، الْحَدِيثَ. لَكِنْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَفَصَّلَهُ تَفْصِيلًا حَسَنًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِطُولِهِ إِلَى آخِرِ قِصَّةِ عُمَرَ فِي الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى عَاتَبَهُ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ: الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَذَكَرَ مُرَاجَعَتَهَا فِي ذَلِكَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ. الْحَدِيثَ.
فَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ إِلَخْ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ بِحَذْفِ الْوَاسِطَةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَنْ عَمْدٍ مِنْ أَجْلِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا، وَكَأَنَّ مَنْ أَدْرَجَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَشَى عَلَى ظَاهِرِ السِّيَاقِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لِلتَّفْصِيلِ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ نِسَاءَهُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّخْيِيرِ فَاتَّفَقَ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ نَزَلَتْ عَقِبَ فَرَاغِ الشَّهْرِ الَّذِي اعْتَزَلَهُنَّ فِيهِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى نِسَائِهِ أُمِرَ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ. الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَاخْتَلَفَ الْحَدِيثَانِ فِي سَبَبِ الِاعْتِزَالِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْقَضِيَّتَانِ جَمِيعًا سَبَبُ الِاعْتِزَالِ؛ فَإِنَّ قِصَّةَ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ خَاصَّةً بِهِمَا، وَقِصَّةُ سُؤَالِ النَّفَقَةِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ النِّسْوَةِ، وَمُنَاسَبَةُ آيَةِ التَّخْيِيرِ بِقِصَّةِ سُؤَالِ النَّفَقَةِ أَلْيَقُ مِنْهَا بِقِصَّةِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ بَيَانُ الْحُكْمِ فِيمَنْ خَيَّرَهَا زَوْجُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ هَلْ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَشْبَهَهُمَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الثَّانِي، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. وَكَذَا قَالَ: الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي التَّخْيِيرِ هَلْ كَانَ فِي الْبَقَاءِ وَالطَّلَاقِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مَلْزُومٌ لِلْآخَرِ، وَكَأَنَّهُنَّ خُيِّرْنَ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُطَلِّقُهُنَّ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ، وَهُوَ مُقْتَضَى سِيَاقِ الْآيَةِ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ مَحَلَّ الْقَوْلَيْنِ هَلْ فُوِّضَ إِلَيْهِنَّ الطَّلَاقَ أَمْ لَا؟ ولِهَذَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نِسَاءَهُ إِلَّا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي) أَيْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكِ فِي التَّأَنِّي وَعَدَمِ الْعَجَلَةِ حَتَّى تُشَاوِرِي أَبَوَيْكِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ) أَيْ تَطْلُبِي مِنْهُمَا أَنْ يُبَيِّنَا لَكِ رَأْيَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ، زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: إِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكِ أَمْرًا فَلَا تَفْتَاتِي فِيهِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَعْرِضِيهِ عَلَى أَبَوَيْكِ أَبِي بَكْرٍ وَأُمِّ رُومَانَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أُمَّ رُومَانَ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ مَوْجُودَةٌ، فَيُرَدُّ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute