وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِخُطْبَةٍ فِيهَا حَمْدٌ وَشَهَادَةٌ، فَحَذَفَهَا بَعْضُ مَنْ حَمَلَ عَنْهُ الْكِتَابَ.
وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا مَا رَأَى تَصَانِيفَ الْأَئِمَّةِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَشُيُوخِ شُيُوخِهِ وَأَهْلِ عَصْرِهِ كَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَأَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبِي دَاوُدَ فِي السُّنَنِ إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِمَّنْ لَمْ يُقَدِّمْ فِي ابْتِدَاءِ تَصْنِيفِهِ خُطْبَةً، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ مَنِ افْتَتَحَ كِتَابَهُ بِخُطْبَةٍ، أَفَيُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ إِنَّ الرُّوَاةَ عَنْهُ حَذَفُوا ذَلِكَ؟ كَلَّا، بَلْ يُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَمِدُوا لَفْظًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَلَفَّظُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إِذَا كَتَبَ الْحَدِيثَ وَلَا يَكْتُبُهَا، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِسْرَاعٌ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْخُطَبِ دُونَ الْكُتُبِ كَمَا تَقَدَّمَ ; وَلِهَذَا مَنِ افْتَتَحَ كِتَابَهُ مِنْهُمْ بِخُطْبَةٍ حَمِدَ وَتَشَهَّدَ كَمَا صَنَعَ مُسْلِمٌ، وَاللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَدِ اسْتَقَرَّ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ عَلَى افْتِتَاحِ كُتُبِ الْعِلْمِ بِالْبَسْمَلَةِ وَكَذَا مُعْظَمُ كُتُبِ الرَّسَائِلِ، وَاخْتَلَفَ الْقُدَمَاءُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ كُلُّهُ شِعْرًا فَجَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مَنْعُ ذَلِكَ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يُكْتَبَ فِي الشِّعْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ جَوَازُ ذَلِكَ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ الْمُخْتَارُ.
قَوْلُهُ: (بَدْءُ الْوَحْيِ) قَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ بِالْهَمْزِ مَعَ سُكُونِ الدَّالِ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَبِغَيْرِ هَمْزٍ مَعَ ضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ الظُّهُورِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ مَضْبُوطًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ، فَهَذَا يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَثِيرًا، كَبَدْءِ الْحَيْضِ وَبَدْءِ الْأَذَانِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.
وَالْوَحْيُ لُغَةً: الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، وَالْوَحْيُ أَيْضًا: الْكِتَابَةُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْبَعْثُ وَالْإِلْهَامُ وَالْأَمْرُ وَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ وَالتَّصْوِيتُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ التَّفْهِيمُ، وَكُلُّ مَا دَلَّلْتَ بِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ فَهُوَ وَحْيٌ. وَشَرْعًا: الْإِعْلَامُ بِالشَّرْعِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَحْيُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ، أَيِ الْمُوحَى، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَدِ اعْتَرَضَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّيْمِيُّ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ: كَيْفَ كَانَ الْوَحْيُ، لَكَانَ أَحْسَنَ ; لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ فِيهِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ، لَا لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ بَدْءِ الْوَحْيِ فَقَطْ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ حَالُهُ مَعَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَأْنِهِ أَيَّ تَعَلُّقٍ كَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ) هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى حَذْفِ الْبَابِ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَكَذَا عَلَى تَنْوِينِ بَابٍ. وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى كَيْفَ وَإِثْبَاتِ بَابٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَابُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ كَذَا، أَوْ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ اللَّهِ كَذَا، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ كَيْفِيَّةِ قَوْلِ اللَّهِ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُكَيَّفُ، قَالَهُ عِيَاضٌ، وَيَجُوزُ رَفْعُ وَقَوْلُ اللَّهِ عَلَى الْقَطْعِ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ الْآيَةَ) قِيلَ قَدَّمَ ذِكْرَ نُوحٍ فِيهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، أَوْ أَوَّلُ نَبِيٍّ عُوقِبَ قَوْمُهُ، فَلَا يَرِدُ كَوْنُ آدَمَ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ مُطْلَقًا، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. وَمُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى نَبِيِّنَا ﷺ تُوَافِقُ صِفَةَ الْوَحْيِ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ النَّبِيِّينَ فِي الْوَحْيِ بِالرُّؤْيَا، كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ صَاحِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَنَامِ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْوَحْيُ بَعْدُ فِي الْيَقَظَةِ.
١ - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ
[الحديث ١ - أطرافه في: ٥٤، ٢٥٢٩، ٣٨٩٨، ٥٠٧٠، ٦٦٨٩، ٦٩٥٣]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute