الْبَابِ أَوْ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، لِأَنَّ الْكَسْعَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْكَسْعُ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدِكَ عَلَى دُبُرِ شَيْءٍ أَوْ بِرِجْلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنْ تَضْرِبَ عَجُزَ إِنْسَانٍ بِقَدَمِكَ، وَقِيلَ: الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ عَلَى الْمُؤَخَّرِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: كَسَعَ الْقَوْمَ ضَرَبَ أَدْبَارَهُمْ بِالسَّيْفِ، وَكَسَعَ الرَّجُلَ ضَرَبَ دُبُرَهُ بِظَهْرِ قَدَمِهِ، وَكَذَا إِذَا تَكَلَّمَ فَأَثَّرَ كَلَامُهُ بِمَا سَاءَهُ، وَنَحْوُهُ فِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ)؛ أَيِ ابْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ الرَّاوِي عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ) هُوَ بِكَسْرِ الزَّايِ مِنَ الْحُزْنِ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: مِنْ قَوْمِي، وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَسَبَبُهَا أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَلَعُوا بَيْعَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَا يَتَعَمَّدُهُ مِنَ الْفَسَادِ (١)، فَأَمَّرَ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَأَمَّرَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ الْعَدَوِيَّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ فَهَزَمَهُمْ وَاسْتَبَاحُوا الْمَدِينَةَ وَقَتَلُوا ابْنَ حَنْظَلَةَ، وَقُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا. وَكَانَ أَنَسٌ يَوْمَئِذٍ بِالْبَصْرَةِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَحَزِنَ عَلَى مَنْ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - وَكَانَ يَوْمَئِذٍ بِالْكُوفَةِ - يُسَلِّيهِ، وَمُحَصَّلُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَصِيرُ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَا يَشْتَدُّ الْحُزْنُ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِأَنَسٍ فِيهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَشَكَّ ابْنُ الْفَضْلِ فِي أَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ) رَوَاهُ النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُعَزِّيهِ فِيمَنْ أُصِيبَ مِنْ أَهْلِهِ وَبَنِي عَمِّهِ يَوْمَ الْحَرَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي أُبَشِّرُكَ بِبُشْرَى مِنَ اللَّهِ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِذَرَارِيِّ الْأَنْصَارِ وَلِذَرَارِيِّ ذَرَارِيِّهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَسَأَلَ أَنَسًا بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ) هَذَا السَّائِلُ لَمْ أَعْرِفِ اسْمَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ؛ فَإِنَّهُ رَوَى حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ كَمَا تَرَى، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْقَابِسِيِّ: فَسَأَلَ أَنَسٌ بَعْضَ، بِالنَّصْبِ، وَأَنَسٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْئُولَ أَنَسٌ.
قَوْلُهُ: (أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِهِ)؛ أَيْ بِسَمْعِهِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا، أَيْ أَظْهَرَ صِدْقَهُ فِيمَا أَعْلَمَ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَوْفَى صِدْقَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ: وَفَّى اللَّهُ بِأُذُنِكَ يَا غُلَامُ، كَأَنَّهُ جَعَلَ أُذُنَهُ ضَامِنَةً بِتَصْدِيقِ مَا ذَكَرَتْ أَنَّهَا سَمِعَتْ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِهِ صَارَتْ كَأَنَّهَا وَافِيَةٌ بِضَمَانِهَا.
(تَكْمِيلٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا صَادِقًا لِنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. فَقَالَ زَيْدٌ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ، وَلَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ. وَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَجَحَدَهُ الْقَائِلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا﴾ الْآيَةَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَصْدِيقًا لِزَيْدٍ، انْتَهَى. وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَهُ لِكَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ فِي الْقِصَّتَيْنِ فِي تَصْدِيقِ زَيْدٍ.
(١) بلغهم ذلك من الدعاة الذين بثهم عبدالله بن مطيع داعية عبدالله بن الزبير، وهذه الدعابات كانت مفرضة ولاجل المزاحة على الملك، كما صارحهم بذلك عبدالله بن عمر ومحمد بن على بن أبي طالب وزين العابدين على بن الحسين، ونصحوهم بالكف عن ذلك لما يترتب عليه من سوء العواقب، وأخذهم أن ذلك مخالف لآداب الاسلام وسنته.