بَابٍ آخَرَ مِنَ الْأَبْوَابِ أَوْ فِي الْمُذَاكَرَةِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى الْبُخَارِيِّ ذَلِكَ مَعَ تَشَدُّدِهِ فِي شَرْطِ الِاتِّصَالِ وَاعْتِمَادِهِ غَالِبًا فِي الْعِلَلِ عَلَى عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِهِ وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ مِنْ تَخْرِيجِ هَذِهِ النُّسْخَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْضِعَيْنِ هَذَا وَآخَرَ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْهِ لَاسْتَكْثَرَ مِنْ إِخْرَاجِهَا لِأَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهَا عَلَى شَرْطِهِ.
قَوْلُهُ: (صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: كَانَتْ آلِهَةٌ تَعْبُدُهَا قَوْمُ نُوحٍ ثُمَّ عَبَدَتْهَا الْعَرَبُ بَعْدُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا مَجُوسًا وَأَنَّهَا غَرِقَتْ فِي الطُّوفَانِ، فَلَمَّا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا أَخْرَجَهَا إِبْلِيسُ فَبَثَّهَا فِي الْأَرْضِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: كَانُوا مَجُوسًا؛ غَلَطٌ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّةَ كَلِمَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْفُرْسُ يَدَّعُونَ خِلَافَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّ يَغُوثَ هُوَ ابْنُ شِيثَ بْنِ آدَمَ فِيمَا قِيلَ، وَكَذَلِكَ سُوَاعٌ وَمَا بَعْدَهُ، وَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِدُعَائِهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مَثَّلُوا صُورَتَهُ وتَمَسَّحُوا بِهَا إِلَى زَمَنِ مَهْلَائِيلَ فَعَبَدُوهَا بِتَدْرِيجِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً فِي الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ سَرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ؟ مِنْ قِبَلِ الْهِنْدِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا الْمَبْدَأَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ نُوحٍ؟ أَمِ الشَّيْطَانُ أَلْهَمَ الْعَرَبَ ذَلِكَ؟ انْتَهَى.
وَمَا ذُكِرَه مِمَّا نَقَلَهُ تَلَقَّاهُ مِنْ تَفْسِيرِ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ (١)، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ نَحْوَ ذَلِكَ عَلَى مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَسْكَرٍ فِي ذَيْلِهِ، وَفِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ وَقَعَتْ إِلَى الْهِنْدِ فَسَمَّوْا بِهَا أَصْنَامَهُمْ ثُمَّ أَدْخَلَهَا إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَوْلَادَ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَانَ لِآدَمَ خَمْسُ بَنِينَ فَسَمَّاهُمْ، قَالَ: وَكَانُوا عُبَّادًا، فَمَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَزِنُوا عَلَيْهِ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فَصَوَّرَهُ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَفِيهَا: فَعَبَدُوهَا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الَّذِي صَوَّرَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ لِعَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَجِبْ أَبَا ثُمَامَةَ، وَادْخُلْ بِلَا مَلَامَةَ، ثُمَّ ائْتِ سَيْفَ جُدَّةٍ، تَجِدْ بِهَا أَصْنَامًا مُعَدَّةً، ثُمَّ أَوْرِدْهَا تِهَامَةَ وَلَا تَهَبْ، ثُمَّ ادْعُ الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا تُجَبْ. قَالَ: فَأَتَى عَمْرٌو سَاحِلَ جُدَّةَ فَوَجَدَ بِهَا وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي عُبِدَتْ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ ثُمَّ إِنَّ الطُّوفَانَ طَرَحَهَا هُنَاكَ فَسَفَى عَلَيْهَا الرَّمْلُ، فَاسْتَثَارَهَا عَمْرٌو وَخَرَجَ بِهَا إِلَى تِهَامَةَ، وَحَضَرَ الْمَوْسِمَ فَدَعَا إِلَى عِبَادَتِهَا فَأُجِيبَ، وَعَمْرُو بْنُ رَبِيعَةَ هُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ لِكَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ قُضَاعَةَ.
قُلْتُ: وَبَرَةُ هُوَ ابْنُ تَغْلِبَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَدُومَةُ بِضَمِّ الدَّالِ، والْجَنْدَلِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ مَدِينَةٌ مِنْ الشَّامِ مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ، وَوَدٌّ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَحْدَهُ بِضَمِّهَا. (وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ) زَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ، بْنُ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ؛ وَكَانُوا بِقُرْبِ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ سُوَاعٌ بِمَكَانٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رُهَاطٌ؛ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ، مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ مِنْ جِهَةِ السَّاحِلِ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ) فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ: فَكَانَتْ لِبَنِي غُطَيْفِ بْنِ مُرَادٍ، وَهُوَ غُطَيْفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ مُرَادٍ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْ أَنْعَمَ مِنْ طَيِّئٍ وَجُرَشُ بْنُ مَذْحِجٍ اتَّخَذُوا يَغُوثَ لِجُرَشٍ.
قَوْلُهُ: (بِالْجُرُفِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَلَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْجُرُفَ؛ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالرَّاءِ، وَكَذَا فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ. وَلِلنَّسَفِيِّ: بِالْجَوْنِ؛ بِجِيمٍ ثُمَّ وَاوٍ ثُمَّ نُونٍ، زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: عِنْدَ سَبَأٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا
(١) كذا في نسخة، وفي أخرى: "ابن خالد".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute