وَاسْتُشْهِدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ.
قَوْلُهُ (سَأَلَ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ حَضَرَتْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فَأَخْرَجُوهُ فِي مُسْنَدِ عَائِشَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَارِثُ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ بَعْدُ، فَيَكُونُ مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَحْكُومٌ بِوَصْلِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ جَاءَ مَا يُؤَيِّدُ الثَّانِيَ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ، وَعَامِرٌ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ صِفَةَ الْوَحْيِ نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ حَامِلِهِ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِسْنَادُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْوَحْيِ مَجَازٌ ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ حَقِيقَةٌ مِنْ وَصْفِ حَامِلِهِ. وَاعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصْلُحُ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَإِنَّمَا الْمُنَاسِبُ لكيف بَدْءِ الْوَحْيِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ لِكَيْفِيَّةِ إِتْيَانِ الْوَحْيِ لَا لِبَدْءِ الْوَحْيِ اهـ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السُّؤَالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ، أَوْ عَنْ كَيْفِيَّةِ ظُهُورِ الْوَحْيِ، فَيُوَافِقُ تَرْجَمَةَ الْبَابِ. قُلْتُ: سِيَاقُهُ يُشْعِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِإِتْيَانِهِ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُنَاسَبَةَ تَظْهَرُ مِنَ الْجَوَابِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى انْحِصَارِ صِفَةِ الْوَحْيِ أَوْ صِفَةِ حَامِلِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ فَيَشْمَلُ حَالَةَ الِابْتِدَاءِ، وَأَيْضًا فَلَا أَثَرَ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هُنَا وَلَوْ لَمْ تَظْهَرِ الْمُنَاسَبَةُ، فَضْلًا عَنْ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْبَدَاءَةَ بِالتَّحْدِيثِ عَنْ إِمَامَيِ الْحِجَازِ فَبَدَأَ بِمَكَّةَ ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَدِينَةِ. وَأَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَتَعَلَّقَ جَمِيعُ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِبَدْءِ الْوَحْيِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ تَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْوَحْيَ إِلَيْهِ نَظِيرُ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ نَاسَبَ تَقْدِيمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَهُوَ صِفَةُ الْوَحْيِ وَصِفَةُ حَامِلِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا تَبَايُنَ فِيهِ، فَحَسُنَ إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ عَقِبَ حَدِيثِ الْأَعْمَالِ الَّذِي تَقَدَّمَ التَّقْدِيرُ بِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَى تَعَلُّقٍ، وَاللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَحْيَانًا) جَمْعُ حِينٍ، يُطْلَقُ عَلَى كَثِيرِ الْوَقْتِ وَقَلِيلِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُجَرَّدُ الْوَقْتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَوْقَاتًا يَأْتِينِي، وَانْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَعَامِلُهُ يَأْتِينِي مُؤَخَّرٌ عَنْهُ، وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ يَأْتِي الْمَلَكُ، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ حَالَتَانِ فَذَكَرَهُمَا. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِينِي عَلَى نَحْوَيْنِ: يَأْتِينِي بِهِ جِبْرِيلُ فَيُلْقِيهِ عَلَيَّ كَمَا يُلْقِي الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ، فَذَاكَ يَنْفَلِتُ مِنِّي. وَيَأْتِينِي فِي بَيْتِي مِثْلَ صَوْتِ الْجَرَسِ حَتَّى يُخَالِطَ قَلْبِي، فَذَاكَ الَّذِي لَا يَنْفَلِتُ مِنِّي. وَهَذَا مُرْسَلٌ مَعَ ثِقَةِ رِجَالِهِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ﴾ كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ الْمَلَكَ قَدْ تَمَثَّلَ رَجُلًا فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ مَا أَتَاهُ بِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ مَجِيئِهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ. وَأُورِدَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ - وَهُوَ أَنَّ الْوَحْيَ مُنْحَصِرٌ فِي الْحَالَتَيْنِ - حَالَاتٌ أُخْرَى: إِمَّا مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ كَمَجِيئِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَالنَّفْثِ فِي الرُّوْعِ، وَالْإِلْهَامِ، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، وَالتَّكْلِيمِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَإِمَّا مِنْ صِفَةِ حَامِلِ الْوَحْيِ كَمَجِيئِهِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرُؤْيَتِهِ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ سَدَّ الْأُفُقَ.
وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْحَصْرِ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا وَحَمْلُهُمَا عَلَى الْغَالِبِ، أَوْ حَمْلُ مَا يُغَايِرُهُمَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ السُّؤَالِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضَ لِصِفَتَيِ الْمَلَكِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِنُدُورِهِمَا، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ كَذَلِكَ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يَأْتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِوَحْيٍ أَوْ أَتَاهُ بِهِ فَكَانَ عَلَى مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِهَا صِفَةَ الْوَحْيِ لَا صِفَةَ حَامِلِهِ.
وَأَمَّا فُنُونُ الْوَحْيِ فَدَوِيُّ النَّحْلِ لَا يُعَارِضُ صَلْصَلَةَ الْجَرَسِ ; لِأَنَّ سَمَاعَ الدَّوِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَاضِرِينَ - كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ - يُسْمَعُ عِنْدَهُ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالصَّلْصَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَشَبَّهَهُ عُمَرُ بَدَوِيِّ النَّحْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّامِعِينَ، وَشَبَّهَهُ هُوَ ﷺ بِصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ.
وَأَمَّا النَّفْثُ فِي الرُّوْعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ، فَإِذَا أَتَاهُ الْمَلَكُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ نَفَثَ حِينَئِذٍ فِي رُوْعِهِ. وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَلَمْ يَقَعِ السُّؤَالُ عَنْهُ ; لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ صِفَةِ الْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِحَامِلٍ، وَكَذَا التَّكْلِيمُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute