عَبَدَ الطَّاغُوتَ.
وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِمِثْلِ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَجِبْرِيلَ وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ أَوَّلًا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ ثُمَّ سُهِّلَ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَقْرَءُوهُ بِغَيْرِ لِسَانِ قُرَيْشٍ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَثُرَ دُخُولُ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ وُرُودَ التَّخْفِيفِ بِذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ جِبْرِيلَ لَقِيَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ هِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَآخِرُهُ تَاءٌ تَأْنِيثٍ، هُوَ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ كَالْغَدِيرِ، وَجَمْعُهُ أَضًا كَعَصًا، وَقِيلَ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ مِثْلُ إِنَاءٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُنْسَبُ إِلَى بَنِي غِفَارٍ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عِنْدَهُ. وَحَاصِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. أَيْ: أُنْزِلَ مُوَسَّعًا عَلَى الْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، أَيْ: يَقْرَأُ بِأَيِّ حَرْفٍ أَرَادَ مِنْهَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صَاحِبِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَوْ عَلَى هَذِهِ التَّوْسِعَةِ وَذَلِكَ لِتَسْهِيلِ قِرَاءَتِهِ، إِذْ لَوْ أَخَذُوا بِأَنْ يَقْرَءُوهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْمُشْكِلِ لَهُ: كَانَ مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْرَأَ كُلُّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ، فَالْهُذَلِيُّ يَقْرَأُ: عَتَّى حِينٍ، يُرِيدُ: حَتَّى حِينٍ وَالْأَسَدِيُّ يَقْرَأُ تِعْلَمُونَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِزُ وَالْقُرَشِيُّ لَا يَهْمِزُ، قَالَ: وَلَوْ أَرَادَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزُولَ عَنْ لُغَتِهِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ لِسَانُهُ طِفْلًا وَنَاشِئًا وَكَهْلًا لَشَقَّ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ، فَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْهُ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ لَقَالَ مَثَلًا: أُنْزِلَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْكَلِمَةِ وَجْهٌ أَوْ وَجْهَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ إِلَى سَبْعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنْكَرَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اخْتِلَافِ هِشَامٍ، وَعُمَرَ وَلُغَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّمَا الْمَعْنَى سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ، نَحْوَ أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ. ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْمَاضِيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ تَغَايُرَ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى مَعَ انْحِصَارِ ذَلِكَ فِي سَبْعِ لُغَاتٍ، لَكِنْ لِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَيْسَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي الْقُرْآنِ كُلِّهَا وَلَا مَوْجُودَةَ فِيهِ فِي خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا قَرَأَ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَا بِكُلِّهَا، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ فَيَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا رَيْبٍ، بَلْ يُمْكِنُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ أَنْ تَصِلَ الْأَوْجُهُ السَّبْعَةُ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّغَايُرُ فِي سَبْعَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: مَا تَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ وَلَا يَزُولُ مَعْنَاهُ وَلَا صُورَتُهُ، مِثْلُ: ﴿وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ﴾ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَرَفْعِهَا.
الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْفِعْلِ مِثْلَ بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ﴿بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي.
الثَّالِثُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِنَقْطِ بَعْضِ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَةِ مِثْلُ ثُمَّ نُنْشِرُهَا بِالرَّاءِ وَالزَّايِ.
الرَّابِعُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِإِبْدَالِ حَرْفٍ قَرِيبٍ مِنْ مَخْرَجِ الْآخَرِ مِثْلُ طَلْحٍ مَنْضُودٍ فِي قِرَاءَةِ عَلِيٍّ: وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ.
الْخَامِسُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِثْلُ: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ فِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ.
السَّادِسُ: مَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، هَذَا فِي النُّقْصَانِ، وَأَمَّا فِي الزِّيَادَةِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ فِي