وَمَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْغَزَوَاتِ كَتَبُوكَ وَغَيْرِهَا أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تُسَمَّى الْمَدَنِيُّ اصْطِلَاحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الْثَانِي: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ وَفِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ نَزَلْنَ بِمَكَّةَ وَأَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَمَعَ تَقْدِيمِهِنَّ فِي النُّزُولِ فَهُنَّ مُؤَخَّرَاتٌ فِي تَرْتِيبِ الْمَصَاحِفِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِتَاقِ - وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ - أَنَّهُنَّ مِنْ قَدِيمِ مَا نَزَلَ.
الْحَدِيثُ الْثَالِثُ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ تَعَلَّمْتُ سُورَةَ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْهِجْرَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُتَقَدِّمَةُ النُّزُولِ، وَهِيَ فِي أَوَاخِرِ الْمُصْحَفِ مَعَ ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الْرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ شَقِيقٍ) هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ اسْمِهِ: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) سَيَأْتِي فِي بَابِ التَّرْتِيلِ بِلَفْظِ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ أَسْمَاءُ السُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَ مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى غَيْرِ تَأْلِيفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَكَانَ أَوَّلُهُ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ الْبَقَرَةَ ثُمَّ النِّسَاءَ ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُصْحَفَ عَلِيٍّ كَانَ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ أَوَّلُهُ اقْرَأْ ثُمَّ الْمُدَّثِّرُ ثُمَّ ن وَالْقَلَمِ ثُمَّ الْمُزَّمِّلُ ثُمَّ تَبَّتْ ثُمَّ التَّكْوِيرُ ثُمَّ سَبِّحْ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الْمَكِّيِّ ثُمَّ الْمَدَنِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِتَرْتِيبِهِ هَكَذَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَارِضُ بِهِ جِبْرِيلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ. فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ هَكَذَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يُعَارِضُهُ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُولِ.
نَعَمْ تَرْتِيبُ بَعْضِ السُّوَرِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ مُعْظَمِهَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مِنَ اجْتِهَادِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْح اكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمُبِينِ فَقَرَنْتُمْ بِهِمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ ذَاتُ الْعَدَدِ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ - يَعْنِي مِنْهَا - دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا اهـ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ فِي كُلِّ سُورَةٍ كَانَ تَوْقِيفًا، وَلَمَّا لَمْ يُفْصِحِ النَّبِيُّ ﷺ بِأَمْرِ بَرَاءَةٌ أَضَافَهَا عُثْمَانُ إِلَى الْأَنْفَالِ اجْتِهَادًا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لِبَرَاءَةٌ ثَابِتَةٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَلَا يُؤْخَذُ بِهَذَا. وَكَانَ مِنْ عَلَامَةِ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ نُزُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّلَ مَا يَنْزِلُ شَيْءٌ مِنْهَا كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَعْلَمُ خَتْمَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا نَزَلَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلِمُوا أَنَّ السُّورَةَ قَدِ انْقَضَتْ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ كَانَ تَوْقِيفًا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ حُذَيْفَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ ثَقِيفٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ ﷺ: طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ فَأَرَدْتُ