عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ - فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْمَ وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاءَ وَيَجُبُّوا مَذَاكِيرَهُمْ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْطُ الثَّلَاثَةُ هُمُ الَّذِينَ بَاشَرُوا السُّؤَالَ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ بِخُصُوصِهِمْ تَارَةً وَنُسِبَ تَارَةً لِلْجَمِيعِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي طَلَبِهِ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي الْجُمْلَةِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ عَقَارَهُ فَيَجْعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُجَاهِدَ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَقِيَ نَاسًا بِالْمَدِينَةِ فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ رَهْطًا سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَهَاهُمْ، فَلَمَّا حَدَّثُوهُ ذَلِكَ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا يَعْنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ، لَكِنْ فِي عَدِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَعَهُمْ نَظَرٌ، لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا أَحْسَبُ.
قَوْلُهُ (يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ فِي السِّرِّ.
قَوْلُهُ (كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَضْمُومَةِ أَيِ اسْتَقَلُّوهَا، وَأَصْلُ تَقَالُّوهَا تَقَالَلُوهَا أَيْ رَأَى كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهَا قَلِيلَةٌ.
قَوْلُهُ (فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ قَدْ غُفِرَ لَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَهُ يُحْتَاجُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ عَسَى أَنْ يَحْصُلَ، بِخِلَافِ مَنْ حَصَلَ لَهُ، لَكِنْ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَأَشَارَ إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ أَشَدُّهُمْ خَشْيَةً وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَشَارَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَالْمُغِيرَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ - إِلَى مَعْنًى آخَرَ بِقَوْلِهِ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.
قَوْلُهُ (فَقَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا) هُوَ قَيْدٌ لِلَّيْلِ لَا لِأُصَلِّي، وَقَوْلُهُ فلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا أَكَّدَ الْمُصَلِّي وَمُعْتَزِلَ النِّسَاءِ بِالتَّأْبِيدِ وَلَمْ يُؤَكِّدِ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِطْرِ اللَّيَالِي وَكَذَا أَيَّامُ الْعِيدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ، وَظَاهِرُهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ زِيَادَةَ عَدَدِ الْقَائِلِينَ. لِأَنَّ تَرْكَ أَكْلِ اللَّحْمِ أَخَصُّ مِنْ مُدَاوَمَةِ الصِّيَامِ، وَاسْتِغْرَاقَ اللَّيْلِ بِالصَّلَاةِ أَخَصُّ مِنْ تَرْكِ النَّوْمِ عَلَى الْفِرَاشِ. وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ.
قَوْلُهُ (فَجَاءَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا؟ وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عُمُومًا جَهْرًا مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِهِمْ وَخُصُوصًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ رِفْقًا بِهِمْ وَسَتْرًا لَهُمْ.
قَوْلُهُ (أَمَا وَاللَّهِ) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ أَمَّا أَنَا فَإِنَّهَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلتَّقْسِيمِ.
قَوْلُهُ (إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَغْفُورَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدٍ فِي الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ يُبَالِغُ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ أَخْشَى لِلَّهِ وَأَتْقَى مِنَ الَّذِينَ يُشَدِّدُونَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَدِّدَ لَا يَأْمَنُ مِنَ الْمَلَلِ بِخِلَافِ الْمُقْتَصِدِ فَإِنَّهُ أَمْكَنُ لِاسْتِمْرَارِهِ وَخَيْرُ الْعَمَلِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَقَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُنْبَتُّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ شَيْءٌ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (لَكِنِّي) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ أَنَا وَأَنْتُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ سَوَاءٌ، لَكِنْ أَنَا أَعْمَلُ كَذَا.
قَوْلُهُ (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةُ لَا الَّتِي تُقَابِلُ الْفَرْضَ، وَالرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتِي وَأَخَذَ بِطَرِيقَةِ غَيْرِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَمَّحَ بِذَلِكَ إِلَى طَرِيقِ الرَّهْبَانِيَّةِ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا التَّشْدِيدَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ عَابَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا وَفَّوْهُ بِمَا الْتَزَمُوهُ، وَطَرِيقَةُ النَّبِيِّ ﷺ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ فَيُفْطِرُ لِيَتَقَوَّى عَلَى الصَّوْمِ وَيَنَامُ لِيَتَقَوَّى عَلَى الْقِيَامِ وَيَتَزَوَّجُ لِكَسْرِ الشَّهْوَةِ وَإِعْفَافِ النَّفْسِ. وَتَكْثِيرِ النَّسْلِ. وَقَوْلُهُ فَلَيْسَ مِنِّي إِنْ كَانَتِ الرَّغْبَةُ