للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ إِغْرَاءُ غَائِبٍ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُغْرِي إِلَّا الشَّاهِدَ تَقُولُ: عَلَيْكَ زَيْدًا وَلَا تَقُولُ: عَلَيْهِ زَيْدًا إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الْغَائِبُ رَاجِعًا إِلَى لَفْظَةِ مَنْ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَولِهِ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ مِنْكُمْ جَازَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ. وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِيرَادَ هَذَا اللَّفْظِ فِي مِثَالِ إِغْرَاءِ الْغَائِبِ هُوَ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَجَوَابُ عِيَاضٍ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَأَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ. كَذَا قَالَ، وَالْحَقُّ مَعَ عِيَاضٍ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ تَوَابِعُ لِلْمَعَانِي، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ مُجَرَّدًا هُنَا.

قَوْلُهُ (بِالصَّوْمِ) عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ فَعَلَيْهِ بِالْجُوعِ وَقِلَّةِ مَا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ وَيَسْتَدْعِي طُغْيَانَ الْمَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَى ذِكْرِ الصَّوْمِ، إِذْ مَا جَاءَ لِتَحْصِيلِ عِبَادَةٍ هِيَ بِرَأْسِهَا مَطْلُوبَةٌ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الصَّوْمِ فِي الْأَصْلِ كَسْرُ الشَّهْوَةِ.

قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ) أَيِ الصَّوْمَ.

قَوْلُهُ (لَهُ وِجَاءٌ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ، أَصْلُهُ الْغَمْزُ، وَمِنْهُ وَجَأَهُ فِي عُنُقِهِ إِذَا غَمَزَهُ دَافِعًا لَهُ، وَوَجَأَهُ بِالسَّيْفِ إِذَا طَعَنَهُ بِهِ، وَوَجَأَ أُنْثَيَيْهِ غَمَزَهُمَا حَتَّى رَضَّهُمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ وَهُوَ الْإِخْصَاءُ وَهِيَ زِيَادَةٌ مُدْرَجَةٌ فِي الْخَبَرِ لَمْ تَقَعْ إِلَّا فِي طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ هَذِهِ، وَتَفْسِيرُ الْوِجَاءِ بِالْإِخْصَاءِ فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الْوِجَاءَ رَضُّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْإِخْصَاءَ سَلُّهُمَا، وَإِطْلَاقُ الْوِجَاءِ عَلَى الصِّيَامِ مِنْ مَجَازِ الْمُشَابَهَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَجَا بِفَتْحِ الْوَاوِ مَقْصُورٌ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ لَا يُقَالُ: وَجَاءَ إِلَّا فِيمَا لَمْ يَبْرَأْ وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِذَلِكَ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْجِمَاعَ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَرْكُ التَّزْوِيجِ، لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يُنَافِيهِ وَيُضْعِفُ دَوَاعِيَهُ. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ.

وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الرَّجُلَ فِي التَّزْوِيجِ إِلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: التَّائِقُ إِلَيْهِ الْقَادِرُ عَلَى مُؤَنِهِ، الْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَذَا يُنْدَبُ لَهُ النِّكَاحُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يَجِبُ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي صَحِيحِهِ، وَنَقَلَهُ الْمِصِّيصِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ وَجْهًا، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَأَتْبَاعِهِ.

وَرَدَّ عَلَيْهِمْ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا خَيَّرَتْ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالتَّسَرِّي - يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ قَالُوا: وَالتَّسَرِّي لَيْسَ وَاجِبًا اتِّفَاقًا، فَيَكُونُ التَّزْوِيجُ غَيْرَ وَاجِبٍ، إِذْ لَا يَقَعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَهَذَا الرَّدُّ مُتَعَقَّبٌ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِهِ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِعِ التَّوَقَانُ بِالتَّسَرِّي، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ تَعَيَّنَ التَّزْوِيجُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ عَلَى الْوَطْءِ إِنْ وَجَدَ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ أَوْ يَتَسَرَّى أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنَ الصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمُ الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ، وَالْعَقْدُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدْفَعُ مَشَقَّةَ التَّوَقَانِ قَالَ: فَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْحَدِيثُ لَمْ يَذْهَبُوا إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ صَرَّحَ أَكْثَرُ الْمُخَالِفِينَ بِوُجُوبِ الْوَطْءِ، فَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِقَوْلِهِ ﷺ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَمُبْدَلُهُ مِثْلَهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّوْمِ مُرَتَّبٌ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ كَذَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَأَنْدُبْكَ إِلَى كَذَا. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْقَادِرِ التَّائِقِ إِلَّا إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الَّذِي نَطَقَ بِهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَجِبُ عِنْدَنَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَنْكَفُّ عَنِ الزِّنَا إِلَّا بِهِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُسْتَطِيعُ الَّذِي يَخَافُ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ مِنَ الْعُزُوبَةِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّزْوِيجِ لَا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِ. وَنَبَّهَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى صُورَةٍ يَجِبُ فِيهَا، وَهِيَ مَا إِذَا نَذَرَهُ حَيْثُ كَانَ مُسْتَحَبًّا.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ النِّكَاحَ