للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ) الْمُرَادُ بِالتَّبَتُّلِ هُنَا الِانْقِطَاعُ عَنِ النِّكَاحِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْمَلَاذِّ إِلَى الْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ فَقَدْ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: أَخْلِصْ لَهُ إِخْلَاصًا، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَإِلَّا فَأَصْلُ التَّبَتُّلِ الِانْقِطَاعُ، وَالْمَعْنَى: انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا. لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا تَقَعُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ، وَمِنْهُ صَدَقَةٌ بَتْلَةٌ أَيْ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْمِلْكِ، وَمَرْيَمُ الْبَتُولُ لِانْقِطَاعِهَا عَنِ التَّزْوِيجِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَقِيلَ لِفَاطِمَةَ الْبَتُولُ؛ إِمَّا لِانْقِطَاعِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ غَيْرَ عَلِيٍّ، أَوْ لِانْقِطَاعِهَا عَنْ نُظَرَائِهَا فِي الْحُسْنِ وَالشَّرَفِ.

قَوْلُهُ (وَالْخِصَاءِ) هُوَ الشَّقُّ عَلَى الْأُنْثَيَيْنِ وَانْتِزَاعُهُمَا، وَإِنَّمَا قَالَ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ هُوَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّنَطُّعِ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَيْسَ التَّبَتُّلُ مِنْ أَصْلِهِ مَكْرُوهًا، وَعَطَفَ الْخِصَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَعْضَهُ يَجُوزُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ فَعَرَفَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ رَدَّ عَلَى عُثْمَانَ أَيْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بَلْ نَهَاهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ يَشُقُّ عَلَيَّ الْعُزُوبَةُ، فَأْذَنْ لِي فِي الْخِصَاءِ. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ الْحَدِيثَ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الِاخْتِصَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي طَلَبَهُ عُثْمَانُ هُوَ الِاخْتِصَاءُ حَقِيقَةً فَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِالتَّبَتُّلِ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا وَيَحْتَمِلُ عَكْسَهَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا لَفَعَلْنَا فِعْلَ مَنْ يَخْتَصِي وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ النِّسَاءِ.

قَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّبَتُّلُ الَّذِي أَرَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَكُلِّ مَا يُلْتَذُّ بِهِ، فَلِهَذَا أَنْزَلَ فِي حَقِّهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ تَسْمِيَةُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي كِتَابِ الْمَبْعَثِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ وَفَاتِهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَكَانَتْ فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مِنْ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَولُهُ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَتَبَتَّلْنَا، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى قَولِهِ لَاخْتَصَيْنَا لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ لَبَالَغْنَا فِي التَّبَتُّلِ حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا الْأَمْرُ إِلَى الِاخْتِصَاءِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الِاخْتِصَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَوَارُدُ اسْتِئْذَانِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّبِيَّ فِي ذَلِكَ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ بِالْخِصَاءِ أَبْلَغَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالتَّبَتُّلِ لِأَنَّ وُجُودَ الْآلَةِ يَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ وُجُودِ الشَّهْوَةِ، وَوُجُودُ الشَّهْوَةِ يُنَافِي الْمُرَادَ مِنَ التَّبَتُّلِ، فَيَتَعَيَّنُ الْخِصَاءُ طَرِيقًا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ فِيهِ أَلَمًا عَظِيمًا فِي الْعَاجِلِ يُغْتَفَرُ فِي جَنْبِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ في الْآجِلُ، فَهُوَ كَقَطْعِ الْإِصْبَعِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْيَدِ الْأَكِلَةُ صِيَانَةً لِبَقِيَّةِ الْيَدِ، وَلَيْسَ الْهَلَاكُ بِالْخِصَاءِ مُحَقَّقًا بَلْ هُوَ نَادِرٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ كَثْرَةُ وُجُودِهِ فِي الْبَهَائِمِ مَعَ بَقَائِهَا، وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ عَبَّرَ بِالْخِصَاءِ عَنِ الْجَبِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ. وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الِاخْتِصَاءِ إِرَادَةُ تَكْثِيرِ النَّسْلِ لِيَسْتَمِرَّ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَإِلَّا لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لَأَوْشَكَ تَوَارُدُهُمْ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ النَّسْلُ فَيَقِلُّ الْمُسْلِمُونَ بِانْقِطَاعِهِ وَيَكْثُرُ الْكُفَّارُ، فَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. الحديث الثاني.

قَوْلُهُ (جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ. وَإِسْمَاعِيلُ: هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.، وَقَيْسٌ: هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.، وَعَبْدُ اللَّهِ: هُوَ ابْنُ