للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامَ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ لَوْ وَقَعَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مَا يَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، فَلِهَذَا عَمِلَتْ عَائِشَةُ بِذَلِكَ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ عَنْ دَاوُدَ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَكَذَا نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ دَاوُدَ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يُفِيدُ رَفْعَ الِاحْتِجَابِ مِنْهُ، وَمَالَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي نِسْبَةِ لِدَاوُدَ نَظَرٌ، فَإِنَّ ابْنَ حَزْمٍ ذَكَرَ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ مَعَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا نَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُمْ أَخْبَرُ بِمَذْهَبِ صَاحِبِهِمْ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَصَرَ مَذْهَبَ عَائِشَةَ هَذَا وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ هُوَ ابْنُ حَزْمٍ وَنَقَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ ضَعَّفَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ رَجُلٌ لِعَطَاءٍ: إِنَّ امْرَأَةً سَقَتْنِي مِنْ لَبَنِهَا بَعْدَمَا كَبِرْتُ أَفَأَنْكِحُهَا؟ قَالَ: لَا.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. كَانَتْ عَائِشَةَ تَأْمُرُ بِذَلِكَ بَنَاتِ أَخِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَاقَ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ حَفْصَةَ مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ، وَهُوَ مِمَّا يَخُصُّ بِهِ عُمُومَ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةَ فِي آخَرِينَ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْقُرْطُبِيِّ حَيْثُ خَصَّ الْجَوَازَ بَعْدَ عَائِشَةَ بِدَاوُدَ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ الصِّغَرِ فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ، وَأَجَابُوا عَنْ قِصَّةِ سَالِمٍ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا أَنَّهُ حُكْمٌ مَنْسُوخٌ وَبِهِ جَزَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي أَحْكَامِهِ، وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قِصَّةَ سَالِمٍ كَانَتْ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى تَأَخُّرِهَا، وَهُوَ مُسْتَنَدٌ ضَعِيفٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِ الرَّاوِي وَلَا صِغَرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا رَوَاهُ مُتَقَدِّمًا، وَأَيْضًا فَفِي سِيَاقِ قِصَّةِ سَالِمٍ مَا يُشْعِرُ بِسَبْقِ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ أَرْضِعِيهِ، قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتِ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ، قَالَ: أَرْضِعِيهِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّ الصِّغَرَ مُعْتَبَرٌ فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ.

وَمِنْهَا دَعْوَى الْخُصُوصِيَّةِ بِسَالِمٍ وَامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ : مَا ترَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ لِسَالِمٍ خَاصَّةً، وَقَرَّرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ أَصْلَ قِصَّةِ سَالِمٍ مَا كَانَ وَقَعَ مِنَ التَّبَنِّي الَّذِي أَدَّى إِلَى اخْتِلَاطِ سَالِمٍ بِسَهْلَةَ، فَلَمَّا نَزَلَ الِاحْتِجَابُ وَمُنِعُوا مِنَ التَّبَنِّي شَقَّ ذَلِكَ عَلَى سَهْلَةَ فَوَقَعَ التَّرْخِيصُ لَهَا فِي ذَلِكَ لِرَفْعِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِلْحَاقَ مَنْ يُسَاوِي سَهْلَةَ فِي الْمَشَقَّةِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا فَتَنْفِي الْخُصُوصِيَّةَ وَيَثْبُتُ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ، لَكِنْ يُفِيدُ الِاحْتِجَاجَ. وَقَرَّرَهُ آخَرُونَ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يُحَرِّمُ، فَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصِّغَرِ خُولِفَ الْأَصْلُ لَهُ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَقِصَّةُ سَالِمٍ وَاقِعَةُ عَيْنٍ يَطْرُقُهَا احْتِمَالُ الْخُصُوصِيَّةِ فَيَجِبُ الْوُقُوفُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا.

وَرَأَيْتُ بِخَطِّ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي تَصْنِيفٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَلِيلٍ الْأَنْدَلُسِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي أَنَّ عَائِشَةَ وَإِنْ صَحَّ عَنْهَا الْفُتْيَا بِذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهَا إِدْخَالُ أَحَدٍ مِنَ الْأَجَانِبِ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ تَاجُ الدِّينِ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَرُدُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي فِيهِ قَوْلٌ جَازِمٌ لَا مِنْ قَطْعٍ وَلَا مِنْ ظَنٍّ غَالِبٍ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ غَفْلَةٌ عَمَّا ثَبَتَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بَنَاتِ إِخْوَتِهَا وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَيَرَاهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ صَرِيحٌ، فَأَيُّ ظَنٍّ غَالِبٍ وَرَاءَ هَذَا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ