الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَحُذِفَ مَا بَعْدَ أَكْنَنْتُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ سِيَاقُ الْآيَةِ، وَالَّتِي بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: أَجَلَهُ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَرْبَعَةَ أَحْكَامٍ: اثْنَانِ مُبَاحَانِ التَّعْرِيضُ وَالْإِكْنَانُ، وَاثْنَانِ مَمْنُوعَانِ النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ وَالْمُوَاعَدَةُ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (أَضْمَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ وَأَضْمَرْتَهُ فَهُوَ مَكْنُونٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي طَلْقٌ) هُوَ ابْنُ غَنَّامٍ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا عَرَّضْتُمْ) أَيْ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ إِلَخْ) وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلتَّعْرِيضِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّعْرِيضُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمِ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفُ لَا يُخْرِجُ الْمَجَازَ، وَأَجَابَ سَعْدُ الدِّينِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ التَّعْرِيفَ، ثُمَّ حَقَّقَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّهُ ذِكْرُ شَيْءٍ مَقْصُودٍ بِلَفْظٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ مَجَازِيٍّ أَوْ كِنَائِيٍّ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكَلَامِ، مِثْلُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَجِيءَ لِلتَّسْلِيمِ وَمُرَادُهُ التَّقَاضِي، فَالسَّلَامُ مَقْصُودُهُ وَالتَّقَاضِي عَرْضٌ، أَيْ أُمِيلَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ عَنْ عَرْضٍ أَيْ جَانِبٍ. وَامْتَازَ عَنِ الْكِنَايَةِ فَلَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ، فَمَثَلُ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ كِنَايَةٌ وَتَعْرِيضٌ، وَمَثَلُ طَوِيلُ النِّجَادِ كِنَايَةٌ لَا تَعْرِيضٌ، وَمَثَلُ آذَيْتَنِي فَسَتَعْرِفُ خِطَابًا لِغَيْرِ الْمُؤْذِي تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُؤْذِي لَا كِنَايَةٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهُوَ تَحْقِيقٌ بَالِغٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ يُيَسَّرُ) بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ أُخْرَى مِثْلِهَا بَعْدَهَا وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُسِرُّ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَهَكَذَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَوْقُوفِ.
وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ: لَا تُفَوِّتِينَا بِنَفْسِكِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحُكْمِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَكَذَا مَنْ وَقَفَ نِكَاحُهَا، وَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَرِّضَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ فِيهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّسْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ حَرَامٌ لِجَمِيعِ الْمُعْتَدَّاتِ، وَالتَّعْرِيضُ مُبَاحٌ لِلْأُولَى، حَرَامٌ فِي الْأَخِيرَةِ، مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْبَائِنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْقَاسِمُ) يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ: (إِنَّكِ عَلَيَّ كَرِيمَةٌ) أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ آخَرُ لِلتَّعْرِيضِ، وَكُلُّهَا أَمْثِلَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِهِ أَوْ نَحْوُ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَوْلُ اللَّهِ ﷿: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا: إِنَّك إِلَى آخِرِهِ. وَقَوْلُهُ فِي الْأَمْثِلَةِ: إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصْرِيحَهُ بِالرَّغْبَةِ فِيهَا لَا يَمْتَنِعُ، وَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي خِطْبَتِهَا حَتَّى يُصَرِّحَ بِمُتَعَلِّقِ الرَّغْبَةِ، كَأَنْ يَقُولُ: إِنِّي فِي نِكَاحِكِ لَرَاغِبٌ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ التَّعْرِيضِ؛ أَعْنِي مَا ذَكَرَهُ الْقَاسِمُ، وَأَمَّا مَا مَثَّلْتُ بِهِ فَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهًا، وَعَبَّرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِقَوْلِهِ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، فَأَوْهَمَ أَنَّهُ لَا يُصَرِّحُ بِالرَّغْبَةِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ مِنْ صُوَرِ التَّصْرِيحِ: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ فَإِنِّي نَاكِحُكِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ فَإِنِّي نَاكِحُكِ فَهُوَ مِنْ صُوَرِ التَّعْرِيضِ؛ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ قَرِيبًا. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ مِنْ صُوَرِ التَّصْرِيحِ لَا تُفَوِّتِي عَلَيَّ نَفْسَكِ، وَتَعَقَّبُوهُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَمَّتِهِ سُكَيْنَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ، أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي مِنْ مَهْلِكِ زَوْجِي فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتِ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمِنْ عَلِيٍّ، وَمَوْضِعِي فِي الْعَرَبِ فَقُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، أَنْتَ رَجُلٌ يُؤْخَذُ عَنْكَ تَخْطُبُنِي فِي عِدَّتِي؟ قَالَ: إِنَّمَا أَخْبَرْتُكِ بِقَرَابَتِي مِنْ