مِنْ طَرِيقِهِ فَقَالُوا: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقٍ سِتٌّ وَسَبْعُونَ أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَشُكَّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ فَتَرَدَّدَ أَيْضًا لَكِنْ يُرَجَّحُ بِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ وَمَا عَدَاهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فَمَعْلُولَةٌ، وَعَلَى صِحَّتِهَا لَا تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، وَتَرْجِيحُ رِوَايَةِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ لِكَوْنِهَا زِيَادَةَ ثِقَةٍ - كَمَا ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ ثُمَّ عِيَاضٌ - لَا يَسْتَقِيمُ، إِذِ الَّذِي زَادَهَا لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْجَزْمِ بِهَا، لَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الْمَخْرَجِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ شُفُوفَ نَظَرِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْأَقَلَّ لِكَوْنِهِ الْمُتَيَقَّنَ.
قَوْلُهُ: (شُعْبَةٌ) بِالضَّمِّ أَيْ قِطْعَةٌ، وَالْمُرَادُ الْخُصْلَةُ أَوِ الْجُزْءُ.
قَوْلُهُ: (وَالْحَيَاءُ) هُوَ بِالْمَدِّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ تَرْكِ الشَّيْءِ بِسَبَبٍ، وَالتَّرْكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَفِي الشَّرْعِ: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ الْقَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَيَاءُ مِنَ الْغَرَائِزِ فَكَيْفَ جُعِلَ شُعْبَةً مِنَ الْإِيمَانِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً وَقَدْ يَكُونُ تَخَلُّقًا، وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إِلَى اكْتِسَابٍ وَعِلْمٍ وَنِيَّةٍ، فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ لِهَذَا، وَلِكَوْنِهِ بَاعِثًا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَحَاجِزًا عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُقَالُ: رُبَّ حَيَاءٍ يَمْنَعُ عَنْ قَوْلِ الْحَقِّ أَوْ فِعْلِ الْخَيْرِ ; لِأَنَّ ذَاكَ لَيْسَ شَرْعِيًّا، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ هُنَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَالدَّاعِي إِلَى بَاقِي الشُّعَبِ، إِذِ الْحَيُّ يَخَافُ فَضِيحَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَأْتَمِرُ وَيَنْزَجِرُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْحَيَاءِ فِي بَابِ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ بَابًا.
(فَائِدَةٌ): قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: تَكَلَّفَ جَمَاعَةٌ حَصْرَ هَذِهِ الشُّعَبِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَفِي الْحُكْمِ بِكَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادَ صُعُوبَةً، وَلَا يَقْدَحُ عَدَمُ مَعْرِفَةِ حَصْرِ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي الْإِيمَانِ. اهـ.
وَلَمْ يَتَّفِقْ مَنْ عَدَّ الشُّعَبَ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، وَأَقْرَبُهَا إِلَى الصَّوَابِ طَرِيقَةُ ابْنِ حِبَّانَ، لَكِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى بَيَانِهَا مِنْ كَلَامِهِ، وَقَدْ لَخَّصْتُ مِمَّا أَوْرَدُوهُ مَا أَذْكُرُهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الشُّعَبَ تَتَفَرَّعُ عَنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَأَعْمَالِ اللِّسَانِ، وَأَعْمَالِ الْبَدَنِ. فَأَعْمَالُ الْقَلْبِ فِيهِ الْمُعْتَقَدَاتُ وَالنِّيَّاتُ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَصْلَةً: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَاعْتِقَادُ حُدُوثِ مَا دُونَهُ. وَالْإِيمَانِ بِمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقَبْرِ، وَالْبَعْثِ، وَالنُّشُورِ، وَالْحِسَابِ، وَالْمِيزَانِ، وَالصِّرَاطِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَمَحَبَّةِ اللَّهِ. وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَمَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَاعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَاتِّبَاعُ سُنَّتِهِ، وَالْإِخْلَاصُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ، وَالتَّوْبَةُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالشُّكْرُ، وَالْوَفَاءُ، وَالصَّبْرُ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالتَّوَاضُعُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ، وَتَرْكُ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَتَرْكُ الْحَسَدِ، وَتَرْكُ الْحِقْدِ، وَتَرْكُ الْغَضَبِ.
وَأَعْمَالُ اللِّسَانِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعِ خِصَالٍ: التَّلَفُّظِ بِالتَّوْحِيدِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ، وَتَعْلِيمِهِ، وَالدُّعَاءِ، وَالذِّكْرِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الِاسْتِغْفَارُ، وَاجْتِنَابُ اللَّغْوِ.
وَأَعْمَالُ الْبَدَنِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ خُصْلَةٍ، مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْيَانِ، وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةٍ: التَّطْهِيرُ حِسًّا وَحُكْمًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالصَّلَاةُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالزَّكَاةُ كَذَلِكَ، وَفَكُّ الرِّقَابِ، وَالْجُودُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ، وَالصِّيَامُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ كَذَلِكَ، وَالطَّوَافُ، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْفِرَارُ بِالدِّينِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، وَالتَّحَرِّي فِي الْإِيمَانِ، وَأَدَاءُ الْكَفَّارَاتِ. وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ الِاتِّبَاعِ، وَهِيَ سِتُّ خِصَالٍ: التَّعَفُّفُ بِالنِّكَاحِ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْعِيَالِ ; وَبِرُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute