يَأْتِي فِي الْعِلْمِ. وَقَدْ وقَعَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا آدَمُ) عَطَفَ الْإِسْنَادَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَسُوقَ الْمَتْنَ فَأَوْهَمَ اسْتِوَاءَهُمَا، فَإِنَّ لَفْظَ قَتَادَةَ مِثْلُ لَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ زَادَ فِيهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَفْظُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يَعْقُوبَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَدَلَ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَفْظُهُ لَا يُؤْمِنُ الرَّجُلُ وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ جِهَةٍ، وَأَحَدُكُمْ أَشْمَلُ مِنْ جِهَةٍ، وَأَشْمَلُ مِنْهُمَا رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَسِيَاقُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُغَايِرٌ لِسِيَاقِ قَتَادَةَ، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يُوهِمُ اتِّحَادَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ يَصْنَعُ مِثْلَ هَذَا نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ لَا إِلَى خُصُوصِ أَلْفَاظِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى سِيَاقِ قَتَادَةَ لِمُوَافَقَتِهِ لِسِيَاقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مَأْمُونٌ فِيهَا مِنْ تَدْلِيسِ قَتَادَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا مَا سَمِعَهُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَذِكْرُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ أَدْخَلُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمَا أَعَزُّ عَلَى الْعَاقِلِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونَانِ أَعَزَّ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ النَّفْسَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَلْ تَدْخُلُ الْأُمُّ فِي لَفْظِ الْوَالِدِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ لَهُ الْوَلَدُ فَيَعُمُّ، أَوْ يُقَالُ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا كَمَا يُكْتَفَى عَنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالْمُرَادُ الْأَعِزَّةُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَعِزَّتِهِ، وَذِكْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقُدِّمَ الْوَالِدُ عَلَى الْوَلَدِ فِي رِوَايَةِ لِتَقَدُّمِهِ بِالزَّمَانِ وَالْإِجْلَالِ، وَقُدِّمَ الْوَلَدُ فِي أُخْرَى لِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ، وَهَلْ تَدْخُلُ النَّفْسُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؟ الظَّاهِرُ دُخُولُهُ. وَقِيلَ إِضَافَةُ الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ تَقْتَضِي خُرُوجَهُ مِنْهُمْ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ وَقَعَ التَّنْصِيصُ بِذِكْرِ النَّفْسِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْمُرَادُ بِالْمَحَبَّةِ هُنَا حُبُّ الِاخْتِيَارِ لَا حُبُّ الطَّبْعِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَضِيَّةِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَالْمُطْمَئِنَّةِ، فَإِنَّ مَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْمُطْمَئِنَّةِ كَانَ حُبُّهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ رَاجِحًا، وَمَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْأَمَّارَةِ كَانَ حُكْمُهُ بِالْعَكْسِ. وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّهُ حَمَلَ الْمَحَبَّةَ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُرَادًا هُنَا ; لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْأَعْظَمِيَّةِ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَحَبَّةِ، إِذْ قَدْ يَجِدُ الْإِنْسَانُ إِعْظَامَ شَيْءٍ مَعَ خُلُوِّهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا مَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الْمَيْلَ لَمْ يَكْمُلْ إِيمَانُهُ، وَإِلَى هَذَا يُومِئُ قَوْلُ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّكَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ، انْتَهَى.
فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ بِاعْتِقَادِ الْأَعْظَمِيَّةِ فَقَطْ، فَإِنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً لِعُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا. وَمِنْ عَلَامَةِ الْحُبِّ الْمَذْكُورِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ فَقْدِ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ أَوْ فَقْدِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً، فَإِنْ كَانَ فَقْدُهَا أَنْ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ فَقْدِ شَيْءٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ فَقَدِ اتَّصَفَ بِالْأَحَبِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَنْ لَا فَلَا. وَلَيْسَ ذَلِكَ مَحْصُورًا فِي الْوُجُودِ وَالْفَقْدِ، بَلْ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي نُصْرَةِ سُنَّتِهِ وَالذَّبِّ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَقَمْعِ مُخَالِفِيهَا. وَيَدْخُلُ فِيهِ بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى فَضِيلَةِ التَّفَكُّرِ، فَإِنَّ الْأَحَبِّيَّةَ الْمَذْكُورَةَ تُعْرَفُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَحْبُوبَ الْإِنْسَانِ إِمَّا نَفْسُهُ وَإِمَّا غَيْرُهَا. أَمَّا نَفْسُهُ فَهُوَ أَنْ يُرِيدَ دَوَامَ بَقَائِهَا سَالِمَةً مِنَ الْآفَاتِ، هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمَطْلُوبِ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ فِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ تَحْصِيلِ نَفْعٍ مَا عَلَى وُجُوهِهِ الْمُخْتَلِفَةِ حَالًا وَمَآلًا.
فَإِذَا تَأَمَّلَ النَّفْعَ الْحَاصِلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ ﷺ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ إِمَّا بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِمَّا بِالسَّبَبِ عَلِمَ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute