انْتِظَارِ عِدَّةٍ إِنْ كَانَتْ بَائِنًا، بِخِلَافِ جَمْعِ الثَّلَاثِ. ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ لَكِنَّ التَّسْرِيحَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ إِيقَاعِ الثِّنْتَيْنِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾ فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ أَيْ أَكْثَرُ الطَّلَاقِ - الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ الْإِمْسَاكُ أَوِ التَّسْرِيحُ - مَرَّتَانِ، ثُمَّ حِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَخْتَارَ اسْتِمْرَارَ الْعِصْمَةِ فَيُمْسِكَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْمُفَارَقَةَ فَيُسَرِّحُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَنَقَلُوا عَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْرِيحِ فِي الْآيَةِ تَرْكُ الرَّجْعَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا رَزِينٍ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ عَنْ أَنَسٍ لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَقَدْ رَجَّحَ الْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَدَفَعَ الْخَبَرَ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ فَائِدَةٍ، وَهِيَ بَيَانُ حَالِ الْمُطَلَّقَةِ، وَأَنَّهَا تَبِينُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
قَالَ: وَتُؤْخَذُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ اهـ. وَالْأَخْذُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ حَسَنٌ يَعْتَضِدُ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثَّالِثَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا فَيُحْسِنُ صُحْبَتَهَا أَوْ يُسَرِّحَهَا فَلَا يَظْلِمْهَا مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَجَازَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾ وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ إِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْفُسْحَةِ لَهُمْ، فَمَنْ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ لَزِمَهُ، كَذَا قَالَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ اللُّزُومِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ مَبْتُوتَتُهُ بِزِيَادَةِ ضَمِيرٍ لِلرَّجُلِ، وَكَأَنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَيَبُتُّهَا ثُمَّ يَمُوتُ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا، قَالَ: أَمَّا عُثْمَانُ فَوَرَّثَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ أُوَرِّثَهَا لِبَيْنُونَتِهِ إِيَّاهَا.
قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَرِثُهُ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، والشَّعْبِيُّ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ قَالَ: تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَرِثُهُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ.
قَوْلُهُ (تَزَوَّجُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ آخِرِهِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ.
قَوْلُهُ (إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ؟ قَالَ: نَعَمْ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ دَارَ بَيْنَ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، لَكِنِ الَّذِي رَأَيْتُ فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ فَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، إِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ وَرِثَتْهُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَرَأَيْتَ إِنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ.
قَوْلُهُ (قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الْآخَرُ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ) هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مُخْتَصَرًا، وَالَّذِي فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَتَتَزَوَّجُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنْ مَاتَ هَذَا وَمَاتَ الْأَوَّلُ أَتَرِثُ زَوْجَيْنِ؟ قَالَ: لَا. فَرَجَعَ إِلَى الْعِدَّةِ فَقَالَ: تَرِثُهُ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَلَعَلَّهُ سَقَطَ ذِكْرُ الشَّعْبِيِّ مِنَ الرِّوَايَةِ. وَأَبُو هَاشِمٍ الْمَذْكُورُ هُوَ الرُّمَّانِيُّ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ اسْمُهُ يَحْيَى، وَهُوَ وَاسِطِيٌّ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَمَحَلُّ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ كِتَابُ الْفَرَائِضِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هُنَا اسْتِطْرَادًا. وَالْمَبْتُوتَةُ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُثَنَّاتَيْنِ مَنْ قِيلَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ وَتُطْلَقُ عَلَى مَنْ أُبِينَتْ بِالثَّلَاثِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute