وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا.
وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ عَقِبَ الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالرِّيَاءِ لَا عُقُوبَةَ فِيهِ، فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا، لَكِنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ أَصَحُّ إِسْنَادًا. وَيُمْكِنُ - يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا - أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَدَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. قُلْتُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ، وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ فَأَرْسَلَهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَصَلَهُ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ، وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَالْجَمْعُ - الَّذِي جَمَعَ بِهِ الْقَاضِي - حَسَنٌ ; لَكِنَّ الْقَاضِيَ وَمَنْ تَبِعَهُ جَازِمُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ هَذَا كَانَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْبَيْعَةَ الْأُولَى بِمِنًى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ عَامَ خَيْبَرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَدِيثُهُ مُتَقَدِّمًا؟ وَقَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ كَانَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَدِيمًا وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ كَمَا سَمِعَهُ عُبَادَةُ، وَفِي هَذَا تَعَسُّفٌ. وَيُبْطِلُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ، وَأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ إِذْ ذَاكَ.
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَالْمُبَايَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تَقَعْ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَنْ يَرْحَلَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ - فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَغَيْرِهِ - مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ أَيْضًا قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. . . الْحَدِيثَ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُرَادِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّهُ جَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ وَلَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الْجَنَّةُ. فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا. فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ.
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى، وَأَلْفَاظٌ قَرِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ وَضَحَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبَيْعَةِ الْأُولَى.
ثُمَّ صَدَرَتْ مُبَايَعَاتٌ أُخْرَى سَتُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْهَا هَذِهِ الْبَيْعَةُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْفَوَاحِشِ الْمَذْكُورَةِ. وَالَّذِي يُقَوِّي أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمُمْتَحِنَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ﴾ وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا بَايَعَهُمْ قَرَأَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَعِنْدَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: قَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: فَتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ، قَالَ: أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ أَلَا تُبَايِعُونَنِي عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ: أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ.
فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْبَيْعَةَ إِنَّمَا صَدَرَتْ بَعْدَ نُزُولِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute