إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلاَّ مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ سُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ قَالَ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا"
قَوْلُهُ: (بَابُ تُحِدُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَيَجُوزُ بِفَتْحه ثُمَّ ضَمَّة مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي: بَابِ إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ الْإِحْدَادِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ إحدادا لِمَنْعِهِ الدَّاخِلَ، وَسُمِّيَتِ الْعُقُوبَةُ حَدًّا؛ لِأَنَّهَا تَرْدَعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: مَعْنَى الْإِحْدَادِ: مَنْعُ الْمُعْتَدَّةِ نَفْسَهَا الزِّينَةَ، وَبَدَنَهَا الطِّيبَ، وَمَنْعُ الْخُطَّابِ خِطْبَتَهَا وَالطَّمَعَ فِيهَا كَمَا مَنَعَ الْحَدُّ الْمَعْصِيَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُمِّيَ الْحَدِيدُ حَدِيدًا؛ لِلِامْتِنَاعِ بِهِ أَوْ لِامْتِنَاعِهِ عَلَى مُحَاوِلِهِ، وَمِنْهُ تَحْدِيدُ النَّظَرِ بِمَعْنَى امْتِنَاعِ تَقَلُّبِهِ فِي الْجِهَاتِ، وَيُرْوَى بِالْجِيمِ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: يُرْوَى بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَبِالْحَاءِ أَشْهَرُ، وَالْجِيمُ مَأْخُوذٌ مِنْ جَدَدْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتُهُ، فَكَأَنَّ الْمَرْأَةَ انْقَطَعَتْ عَنِ الزِّينَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ: حَدَّتْ وَلَمْ يَعْرِفْ إِلَّا أَحَدَّتْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ الْقُدَمَاءُ يُؤْثِرُونَ أَحَدَّتْ وَالْأُخْرَى أَكْثَرُ مَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الطِّيبَ) أَيْ: إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَمَاتَ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ) أَظُنُّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ؛ فَإِنَّ أَثَرَ الزُّهْرِيِّ وَصَلَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يُونُسَ عَنْهُ بِدُونِهَا، وَأَصْلُهُ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ بِاخْتِصَارٍ. وَفِي التَّعْلِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ إِلْحَاقِ الصَّبِيَّةِ بِالْبَالِغِ فِي الْإِحْدَادِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا، وَبَذْلِكَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَحْرُمُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بَلْ خِطْبَتُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةِ فِي الْبَابِ: أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً، إِذْ لَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَقَالَتْ: أَفَتَكْتَحِلُ هِيَ؟ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهَا: أَفَنَكْحُلُهَا؟ أَيْ: أَفَنُمَكِّنُهَا مِنَ الِاكْتِحَالِ؟.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ. وَهِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا لَا رِوَايَةَ لَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهَا مُسْلِمٌ حَدِيثَهَا: كَانَ اسْمِي بَرَّةَ فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْنَبُ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ لَهَا الْبُخَارِيُّ حَدِيثًا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ) تَقَدَّمَ مِنْهَا الْحَدِيثَانِ الْأَوَّلَانِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مَعَ كَثِيرٍ مِنْ شَرْحِهِمَا، وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا، وَفِي الثَّانِي حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، وَأَنَّهُ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الْمُوَطَّآتِ: عَبْدُ اللَّهِ. وَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُصْعَبٍ، وَأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيدًا، وَزَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ يَوْمَئِذٍ طِفْلَةٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ دَخَلَتْ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْمُصَغَّرَ؛ فَإِنَّ دُخُولَ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِوَفَاتِهِ كَانَ وَهِيَ مُمَيِّزَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَبَا أَحْمَدَ بْنَ جَحْشٍ فَإِنَّ اسْمَهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاتَ قَبْلَ زَيْنَبَ، لَكِنْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حضَرَ دَفْنَهَا. وَيَلْزَمُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي الِاسْمِ تَغْيِيرٌ، أَوِ الْمَيِّتُ كَانَ أَخَا زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مِنْ أُمِّهَا أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَحِلُّ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْدَادِ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَعَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الزَّوْجِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ بَعْدَ النَّفْيِ، فَيَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ فَوْقَ الثَّلَاثِ عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ اسْتُفِيدَ مِنْ دَلِيلٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute